اثنا عشر عاما كانت كافية لأن تتحول
الثورة السورية إلى قضية خاسرة
على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، بعد سنوات من الصراع السياسي-العسكري العقيم.
محليا، سيطرة مطلقة للنظام على مناطق سيطرته لا تسمح بنشوء أي شكل من
أشكال المقاومة أو العصيان رفضا للواقع السياسي والاقتصادي المزري، يقابله انصياع
تام لقوى المعارضة المسلحة للقرار التركي الناجم عن تفاهمات إقليمية ودولية، بعدما
خرج الشمال السوري المحرر بشقيه العربي والكردي من ثنائية النظام/ المعارضة إلى
ثنائية الصراع الإقليمي/ الدولي.
إقليميا، بدأ الانزياح العربي نحو النظام السوري منذ نهاية عام 2015،
ثم تصاعد تدريجيا ليتحول إلى مطالبة بعض الدول العربية بإعادة المقعد السوري في
الجامعة العربية للنظام، ومطالبة البعض الآخر بإعادة تأهيل النظام السوري من أجل
القيام بمهامه العربية.
وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية وراء التحول العربي، فإن هذا التحول
الذي بدأ بشكل خجول، تحول إلى مسار سياسي منظم بعدما قدم الملك الأردني مقاربة
جديدة للتعامل مع النظام السوري والانعطاف السياسي الذي قام به أردوغان تجاه
النظام لأسباب تتعلق بالانتخابات التركية المقبلة.
هكذا، أصبح تجول الأسد في عواصم عربية من نافلة العمل السياسي
الطبيعي، على اعتبار أن حالة القطيعة السياسية كانت حالة استثنائية وضارة سياسيا
بالنسبة لهذه الدول، التي تبني سياساتها على أساس مصالح النخب الحاكمة فيها لا على
أساس مصالح شعوبها.
جاء الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال
سوريا ليعطي دفعة
للمسار التصالحي، وتحت حجة العمل الإنساني بدأت شخصيات سياسية رسمية بزيارة دمشق،
سبقتها مساعدات إنسانية مباشرة للنظام السوري.
ما تزال فكرة الثورة ماثلة في وعي جزء لا يستهان به من السوريين مما يجعلها فكرة حية ذات كينونة تاريخية، وإن بقيت على مستوى الوعي، فالثورة لا تصبح واقعا إلا عندما تتشكل في الوعي، وإذا كان الواقع الحالي لا يسمح بانتقالها من القوة إلى الفعل بعد الانتكاسة التي تعرضت لها، إلا أنها باقية كفكرة وتنتظر لحظة الإمكان التاريخي.
دوليا، منذ عام 2015 اتخذ قرار على المستوى الدولي برعاية أمريكية
بضرورة تحجيم الصراع في سوريا بعدما تحقق الهدف بتدمير البلاد وإضعاف القوة
العسكرية للنظام السوري بشكل كبير.
كان لا بد من حصر المعارضة في بقعة جغرافية موحدة وتحت هيمنة دولة
واحدة (تركيا)، في تقاسم إقليمي ـ دولي لمناطق الصراع، ما يسمح بنشوء مسار سياسي ـ
دستوري يمهد للحل النهائي.
لكن، منذ انتهاء المعارك الكبرى عام 2018، أخذ الملف السوري يدخل في
ثبات سياسي، ويتحول بسرعة إلى ملف إنساني محض، من خلاله ولأجله تحدث التسويات
السياسية والعسكرية.
هل فشلت الثورة؟
قد يبدو هذا السؤال بسيطا والإجابة عليه أبسط، في ظل الواقع
الاجتماعي السياسي العسكري القائم.
غير أن حركة التاريخ في الظاهر لا تسير بشكل خطي جلي، وما يبدو أنه
انتكاسة قد يحمل في طياته معامل التغيير المستقبلي.
ـ ما تزال فكرة الثورة ماثلة في وعي جزء لا يستهان به من السوريين
مما يجعلها فكرة حية ذات كينونة تاريخية، وإن بقيت على مستوى الوعي، فالثورة لا
تصبح واقعا إلا عندما تتشكل في الوعي، وإذا كان الواقع الحالي لا يسمح بانتقالها
من القوة إلى الفعل بعد الانتكاسة التي تعرضت لها، إلا أنها باقية كفكرة وتنتظر
لحظة الإمكان التاريخي.
ـ على الرغم من أن الشروط الذاتية للثورة غير متوفرة لدى معظم السكان
في مناطق سيطرة النظام، إلا أن الواقع الاقتصادي ـ السياسي القائم ليس وضعا طبيعيا
قابلا للاستمرار إلى أجل غير مسمى، بل هو وضع قائم بفعل عطالة الاستبداد والخوف
القابع في النفوس، ومثل هذه الحالة لا تتصف بالديمومة وإن طالت إلى حين.
ـ بقاء المعارضة كهيئة سياسية، وبقاء فصائل المعارضة كتشكيل عسكري،
مع تقسيم جغرافي ما يزال قائما بين المعارضة والنظام، وهذا الوضع على سلبياته يحول
دون إنهاء فكرة الثورة ومطالبها لدى المجتمع الدولي على الرغم من التراخي الحاصل
في مواقفه منذ سنوات عدة.
مهما حاولت الأنظمة الاستبدادية والشمولية إبقاء الوضع القائم، فإنها لن تنجح في النهاية، لأن الأنساق السياسية التي يمكن فرضها تتناقض مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة تناقضا عميقا، في مرحلة التغيير الاجتماعي والواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية، وساهمت بحدوث تحول بنيوي تمثل بدخول الجماهير الحيز العام الذي ظل لعقود مغلقا أمامها.
إن الأزمة السورية مهما طالت، ومهما حاول النظام الظهور بمظهر
المنتصر، فإن حلها لا بد أن يكون ضمن ثنائية النظام والمعارضة في نهاية المطاف،
حتى لو كان الحل ضمن ترتيبات ثنائية المستويين الإقليمي والدولي.
ليس من الحصافة القول إن الثورة فشلت وأن النظام نجح، فهذا توصيف غير
دقيق للواقع ولعجلة التاريخ، فالاستمرارية الاجتماعية والسياسية العميقة تجري من
تحت الاضطرابات الثورية.
ومهما حاولت الأنظمة الاستبدادية والشمولية إبقاء الوضع القائم،
فإنها لن تنجح في النهاية، لأن الأنساق السياسية التي يمكن فرضها تتناقض مع الظروف
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة تناقضا عميقا، في مرحلة التغيير
الاجتماعي والواقع السياسي الجديد الذي أفرزته الحركة الاحتجاجية، وساهمت بحدوث
تحول بنيوي تمثل بدخول الجماهير الحيز العام الذي ظل لعقود مغلقا أمامها.