الزلزال الذي أصاب
تركيا وسوريا، وخلف آثار دمار هائلة، على مستوى
البشر والحجر، وعلى مستوى النفوس والقلوب، من هول ما رأت، ليست آثاره السيئة فيما
خلف من خسائر مادية فقط، بل إن هناك مناحي سيئة أخرى ظهرت معه، وهي متعلقة بأخلاق
البشر الذين تعاملوا مع هذه المصيبة، بمستوى بعيد جدا عن هول المصاب.
وقد صدق السلف الصالح حين قالوا: جرح البدن يبرأ، وجرح النفس لا
يبرأ، فالجروح المتعلقة بالجسد، تأخذ وقتها ليتعافى منها، ولكن حين يتعلق الجرح أو
المصيبة بأخلاق وسلوكيات الناس مع المصيبة فهنا تكون الكارثة، ولذا فإنه لم يكن الزلزال
وحده الكارثة، بل كان الأسوأ من الزلزال، هو بعض شرائح البشر التي تعاملت معه،
بأخلاق يمكن وصفها بالنذالة، أو الدونية، في كثير منها.
فأسوأ من الزلزال، فئة قطعت الطريق على معونات ومساعدات كانت تذهب
إلى المضارين، وقد حدث هذا في تركيا وسوريا، في تركيا على يد بعض المجرمين الذين
لم يردعهم مصاب دولتهم وشعبهم، فاستحلوا قطع الطريق على المعونات والمساعدات التي
ذهبت للمضارين، وإذا كان الشرع الحنيف قد حكم على من يحتكر الطعام وقت الأزمات،
ليزداد سعره على الناس، بأنه ملعون، وخاسر في الدنيا والآخرة، كما قال صلى الله
عليه وسلم: "المحتكر خاطئ"، أي: ملعون...
فإذا كانت اللعنة تصيب من يمنع عن الناس ما يملكه، فما بالنا بمن
يمنع عن الناس ما يملكونه هم، من باب السطو والسرقة، وهو ما وضع له الشرع الحنيف
عقوبة الحرابة، لأنه قطع على الناس طريقهم بالقوة، أو السلاح، وإذا كان ذلك ممنوعا
ومجرما في الأوقات الطبيعية، ففي أوقات المحن تكون العقوبة أو المنع أشد.
وسواء فعل ذلك بعض عصابات أو أفراد ـ قلوا أم كثروا ـ في تركيا، أو
فعل ذلك النظام في
سوريا، فالحكم واحد في شرع الله تعالى، بل زادت النذالة بأن قام
بقصف مناطق فيها زلزال، فجمع على الناس بين مصيبة الزلزال، ومصيبة البرد والشتاء
القارس أو القارص، وبين تخلي العالم عن الناس، وتأخره عن نجدتهم.
ومن أسوأ البشر في هذه المحنة، فئة تضاف للفئة السابقة، لم يفقدوا
أخلاقهم فقط، بل فقدوا معها الشعور بالإنسانية، فقد شكا البعض من أشخاص، كانوا
يتصلون بأناس كتبوا أسماءهم أو على صفحاتهم على الفيسبوك، أو الهواتف، للرغبة في
طمأنتهم على ذويهم، فكان البعض يستخف دمه، ليتلاعب بمشاعر الناس ضاحكا، أو ساخرا،
وهذا الفعل من أشد أنواع النذالة وسوء الخلق، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
قد نهى عن ترويع المسلم ولو مازحا، في سياق عادي، فما بالنا في سياق الموت، والرعب
والخوف على الأهل، وانتظار أي خبر بفارغ الصبر يطمئن الناس، أو يريحهم بعثورهم على
جثمان ذويهم.
أسوأ من الزلزال، ما لاحظناه من سعار أصاب كل من هب ودب، ليخرج بالحديث عن الزلزال، وعن عقوبته الإلهية للناس، وعن ذنوب الناس، ولسنا ضد هذا الحديث من باب موعظة الناس، لكن ليس هنا وقته ومجاله، وهذا باب ربما يجد الناس من أهل العلم من يرشده.
وأسوأ من الزلزال في تركيا، ما كان من خطاب العنصرية الذي حاول به
البعض تأجيج مشاعر الناس، لمكسب سياسي، أو لينفث سمومه العنصرية بين الناس، غافلا
عن مصيبة كبرى تصيب بلده، ولا تفرق بين مقيم ومواطن، فالزلزال حين أتى وأسقط
البيوت، بما فيها، ومن فيها، لم يفرق بين تركي وغير تركي، فالموت لا يختار الموتى،
بناء على نوع جواز السفر، أو الجنسية، بل هو مصيبة الموت كما سماه الله تعالى في
قرآنه الكريم.
ولذا لم يكن من الحنكة السياسية، سواء من حيث البراجماتية أو الأخلاق
ما فعله بعض المعارضين الأتراك، من طرق الحديد وهو ساخن، في كارثة كهذه، فالموقف
يحتاج للتكاتف، هذا من باب الأخلاق والمروءة، ولو من باب السياسة والمصلحة، فكان
الأليق والأذكى، أن يؤخر الحديث عن خصومه في السياسة ممن في الحكم، ليمد يده
بالعمل، ولو بعيدا عن السلطة، وسيرى المواطن التركي بنفسه من تقدم لخدمته، ومن وقف
لينتقد، والنقد حق مشروع لا ينكره أحد، لكن في وقت المصائب فإن الناس تنظر لمن مد يده
لانتشاله، لا لمن وقف ينظر.
وهناك تجربة للمعارضة المصرية تتمثل في الإخوان المسلمين، وفي حادث
زلزال سنة 1992م، فإذ بمبارك بعدها بسنوات يقدم الإخوان للمحاكمة العسكرية، وقام
بسجن بعضهم وقتها، وتلفيق قضايا، والسبب: أن الشعب المصري وقت حدوث الزلزال وجد
الإخوان قد سبقت الدولة، بالبطاطين، والمساعدات، وبناء البيوت، فوضعت السلطة
المصرية في حرج شديد، ولذا فقد ظل هذا الرصيد باقيا عند الشعب في كل استحقاق انتخابي،
لأن الإخوان كانوا في مجال الخدمة سباقين، وأسبق من السلطة.
لو فكرت المعارضة التركية بهذا المنطق، فأعتقد أنه سيكون أجدى وأنفع، لأن
مجال المنافسة الحقيقي هو المواطن التركي، وليس المراهنة على فشل أردوغان، أو
نجاحه في مواجهة آثار الزلزال، وهذه حسبة سياسية بحتة، فضلا عن الحسبة الأخلاقية
في هذا المقام.
وأسوأ من الزلزال، ما لاحظناه من سعار أصاب كل من هب ودب، ليخرج
بالحديث عن الزلزال، وعن عقوبته الإلهية للناس، وعن ذنوب الناس، ولسنا ضد هذا
الحديث من باب موعظة الناس، لكن ليس هنا وقته ومجاله، وهذا باب ربما يجد الناس من
أهل العلم من يرشده.
لكن الأسوأ منه، من أسميهم: هبيدة السوشيال ميديا، هؤلاء الذين
يصبحوننا ويمسوننا، بأن الزلزال مؤامرة أمريكية أو غربية على تركيا وسوريا، وبث
الرعب في نفوس الناس، بأن هناك زلازل أكثر خطورة في أماكن أخرى من تركيا، مما يلقي
الرعب والهلع في قلوب الناس، ولو كان الكلام خارجا من مختصين، لرحب به الناس،
وأخذوا حذرهم في ما يستطيعون، لكن المشكلة أنه يخرج من جهلة لا علم لهم بالزلازل،
ولا علم لهم بالموضوع، وأصبحت دغدغة مشاعر الناس، والحصول على مشاهداتهم على
اليوتيوب، لجني المشاهدات أو الربح المالي هو المستهدف للأسف.
كل هذه مساوئ لا تقل سوءا عن كارثة الزلزال، فمن قضى نحبه تحت
الزلزال، فهو شهيد عند ربه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من فقد مروءته، أو
إنسانيته، لمكسب سياسي مؤقت، أو مكسب على السوشيال بالكذب والجهل، أو لشهوة نفس في
الانتقام من خصم، أو شعب يعارضه، فهو الخاسر الأكبر، وهو ما يعني أن علينا دورا
كبيرا في مواجهة الزلازل المعنوية والمادية.
[email protected]