(1)
كان أبي رحمة الله عليه يردد أمامنا كثيرا أمنيته في
اعتزال مشقة الحياة عند بلوغ السنة الخامسة والخمسين من العمر: "سأرتدي
جلبابا أبيض وأتسلح بمسبحة بديعة من الفضة، وأستمتع بقلب أبيض لا يهتم بغير نفسي
وربي..".
بلغ أبي التسعين من غير أن يعتزل المشقة النافعة وخدمة
الآخرين والاهتمام بالحياة، وكنا نشاكسه ضاحكين ونذكره بفشله في تحقيق الأمنية
القديمة البسيطة..
في داخل نفسي كنت الأكثر عزما على تحقيق الأُمنية التي
أبعدتها الحياة عن والدي، وكانت العائلة أحد الدوافع المهمة التي أعادتني من
المنفى إلى الوطن.. لم أصدق يوما أن تتحقق أمنية السلام مع النفس بدون العيش
المطمئن في رحاب العائلة.
لكن كيف يتحقق سلام النفس لمريض بوطن مريض؟
كيف يتحقق سلام النفس والروح متورطة في مرحلة مضطربة
ومخبولة؟
(2)
في السجن أخبرني الضابط الكبير بأنني مصاب بالسرطان،
عارضته في ذلك متعجبا من ثقته في تقرير أمر طبي كهذا، وتخيلت يومها أنه يستدرجني
للموافقة على الخروج من السجن تحت بند العفو الصحي، للإيحاء بأن الحرية كانت مقابل
صفقة أتنازل فيها عن معارضتي من أجل حياة هادئة لرجل مريض..
كانت ظروفي الصحية في تلك الفترة سيئة بالفعل، ولم يكن
هناك أي اهتمام طبي جدي، حتى عندما أصدر الطبيب قرارا بدخولي العزل الصحي، تم ذلك
داخل أحد العنابر في السجن، ولم يتم نقلي إلى المستشفى (كما شاع في الإعلام حينها).
(3)
أشهد أن معاملتي كانت حسنة ومحترمة وفي إطار القوانين،
لكن هذا لم يكن أسلوبا عاما للتعامل مع بقية السجناء، فقد سمعت الكثير مما يجب
كتابته كشهادة عدل نزيهة تساهم في تحسين حال
السجون في
مصر، وحدث أنني خرجت بعد
أول جلسة أمام المحكمة من دون أن أكمل مدة الـ45 يوما التي حكم بها القاضي،
واكتشفت سريعا أنني خرجت من سجن معلوم إلى سجن أشد وأصعب..
لا أقصد ظروف الحصار في العمل ومنعي من التعبير عن رأيي،
ولا ظروف تشوه الحركات السياسية التي تراوح بين إظهار الاستقلالية والتحرك المحسوب
في الهامش الذي يحدده النظام، لكن أضيف إلى ذلك مصاعب سجن الجسد نتيجة ظروف صحية
تفاقمت بدرجة مؤلمة:
كانت مشكلة القلب العليل ونقص تغذية المخ هي المشكلة
الرئيسية والمعلومة، بما يصاحبها من تداعيات متوقعة، لكن فجأة عادت معلومة الضابط
الكبير لتشغل حيزا كبيرا من الاهتمام الطبي بعد أن أدخلني الأطباء في دوامة فحوص
السرطان، وبرغم أن تحليلات الباثولوجي أكدت أن الأورام المشتبه فيها حميدة، إلا أن
دلائل الأورام واختبار "البت سكان" تظل تثير القلق عن وجود السرطان في
مكان ما في الجسم لم يحدده الأطباء بعد 11 شهرا من الفحوصات!!
(4)
عشت فترة غير مستقرة، حالة مؤلمة من الإنهاك الصحي
والذهني والنفسي، خاصة بعد وفاة والدي وانكسار الظهر الذي يبث الاطمئنان في النفس،
مع عودة الأمنية القديمة إلى بؤرة الشعور:
هل أقضي ما تبقى من حياتي في ذلك الصراع السخيف مع عجز
الجسد؟
هل أفشل في تحقيق أمنيتي الموروثة للسلام مع النفس؟
هل انتهت آمالي في تحسين المجال العام، وليس أمامي إلا
الاستسلام للحياة كمريض؟
أمام تلك الأسئلة المزعجة تخففت من المتابعات
الإخبارية لتفاصيل الشأن السياسي المفسدة لنقاء الروح، وانسحبت من ساحة الميديا
الاجتماعية بكل فيها من نشاطات الحياة وصخبها أيضا، وحافظت على صلتي بالشأن العام
من خلال متابعة القضايا الرئيسية وحرصي على استمرار هذا المقال، باعتباره
"النبض" الذي يشير إلى أنني ما زلت حياً، وباعتبار أن العلاقة المحترمة
والمقدرة مع إدارة الموقع، صنعت مع الوقت فضاء إنسانيا يتجاوز علاقات العمل، إلى
ما يشبه الراحة والاطمئنان في رحاب عائلة أكبر، لكنني برغم ذلك التخفف والابتعاد
لم أصل إلى السلام مع النفس، ولم أستعد قدرة الجسد على مواجهة التحديات الواجبة..
ظلت الروائح الكريهة للمرحلة قادرة على اختراق حصن
العائلة، وتعكير الطمأنينة، وتهديد أي أمل في مستقبل مقبول يلائم حالة حالم
بالسلام النفسي..
ظللت حريصا على عدم تمكن الكراهية ومشاعر الانتقام من
قلبي وأفكاري، صحيح أن أولئك الفسدة أفسدوا حياتي وعكروا نقاء روحي وأربكوا برامجي
في العمل والأمل، لكن هذا لا يبرر الاستسلام والمضي في الحياة كمهزوم، ولا يبرر
خوض المعركة معهم كمنتقم أو كاره.. القوة القويمة أن تستمر معركتي معهم كمعركة محب
للحرية والعدل، لا ينكفئ فيختزل المعركة العامة في معارك شخصية فرعية، ولا يتلوث
بنفس
أمراض البغاة الطغاة المسوخ، وهذا ما أحاول أن أتمسك به وأقبض عليه كالجمر..
(5)
لا بد من تأجيل فحوصات الأورام بكل احتمالاتها لأجل
غير مسمى، فلو أننا حددنا المشكلة بطريقة جازمة، فمن الصعب أن نتقدم في العلاج
لأسباب تتعلق بحالة القلب، تضخم العضلة مقلق، ونسبة الارتجاع في الصمام الأورطي
تحتاج إلى حلول سريعة.
هكذا تكلم الطبيب بواقعية نقلتني إلى مشاعر النهايات..
كانت لحظة مؤلمة: نعرفها منذ البدء، لكننا نتغافل عنها
ونحن نخوض معارك الحياة.
كنت كعادتي أرتب أوراقي وأرمم صحتي لاستكمال مواجهات
الحياة، فإذا بالطبيب يأخذني إلى الحساب الختامي!
هل أنجو، كما نجوت في كل المرات السابقة؟
هل أتمكن من الاستمرار لتعديل مسار الهزيمة الذي مُنيت
به على المستوى الفردي والمستوى العام؟
هل يمكن أن يتحقق "سلام النفس" برغم مرض
البدن ومرض الوطن، من غير أن يكون "استسلاما" يبرره الإحساس بالنهاية؟
(6)
لا أحب أن أكون واقعيا لدرجة الجفاف، ولا أصل بالأمل
إلى حواف الميتافيزيقا، لا أرفض الموت، ولا أستسلم له، لن أخاف ولن أتبلد، فقط
أطلب هدنة استعداد، إجازة مرضية أخوض فيها معركة لوجستية واجبة، فإذا عدت لائقاً
بمعارك الشأن العام.. أكملت حتى يشاء الله، وإذا ذهبت.. أدعو الله ألا يكتبني
مهزوما ولا يحشرني مع الظالمين، وأن ييسر لغيري ما لم أستطع أن أحققه..
أستأذنكم في رحيل مؤقت، آملا في كل خير بإذن الله.
[email protected]