قضايا وآراء

المجازفة الصهيونية من حافة الهاوية إلى الهاوية ذاتها.. المسجد الأقصى كنموذج

خلدون محمد
الفعل الصهيوني هنا يبدأ بسيطا ويأخذ بالتدحرج شيئا فشيئا ليصبح واقعا فعليا وكأنه تحصيل حاصل ومسلّم به- جيتي
الفعل الصهيوني هنا يبدأ بسيطا ويأخذ بالتدحرج شيئا فشيئا ليصبح واقعا فعليا وكأنه تحصيل حاصل ومسلّم به- جيتي
الحركة الصهيونية هي مَثَل على الفعل المجازف في التاريخ. فأن تسعى حفنة من يهود العالم لإقامة كيان لهم بين ظهراني ملياري عربي ومسلم، وفي عقر دارهم بالتحديد، هو فعل مجازف ومغامر ومخاطر من الدرجة الأولى، وكانت هذه الصهيونية في كافّة مراحلها وهي تشيد مشروعها الاستيطاني الإحلالي التوسعي والعنصري؛ تستكشف وتمهّد، وتكيد وتمكر، وتحفر وتخرق، ثم تثب وثبتها.

الفعل الصهيوني يبدأ بسيطًا متسلّلًا ناعمًا، ويجتهد في الابتعاد عن الأضواء ولفت الأنظار، ويأخذ بالتدحرج شيئًا فشيئًا ليصبح واقعًا فعليًّا يكبر ويكبر وكأنه تحصيل حاصل ومسلّم به

اعتمدت سياسات التوسّع الصهيوني ما أطلق عليها المستشرق الفرنسي جيفري رودنسون بـ"سياسة الأمر الواقع". فالفعل الصهيوني هنا يبدأ بسيطًا متسلّلًا ناعمًا، ويجتهد في الابتعاد عن الأضواء ولفت الأنظار، ويأخذ بالتدحرج شيئًا فشيئًا ليصبح واقعًا فعليًّا يكبر ويكبر وكأنه تحصيل حاصل ومسلّم به رغم ما قد يظهر من اعتراضات ناشئة هنا وهناك، ليغدو لدى بُناته وكأنه حقيقة سياسية راسخة، يريدونها أن تكون "حقيقة سياسية مطلقة". يصدق ذلك على السياسات الصهيونية كافّة سواء تعلّق الأمر بسياسات الضمّ والاستيطان، أو بالاستحواذ على آبار المياه والمصادر الطبيعية، أو بسياسات القمع والسيطرة الممنهجة، أو حتى بسياسات التطبيع التي تعود جذور بعضها إلى عقود طويلة سابقة كانت تكبر وتكبر مع الأيام، ليأتي الإعلان عن التطبيع الكامل وكأنه مفاجأة للبعيدين.

تميّزت سياسات الأمر الواقع الصهيونية بأنها كانت تزحف وتتقدم بثبات إلى الأمام، فكنّا نجدها عندما تتقدم خطوة إلى الأمام، تنظر إلى حجم الاعتراضات أو الضجة المصاحبة، وتتريث حتى تصبح هذه الخطوة وقد أُحيطت من كل جوانبها بالوقائع المعزّزة الثابتة، لتنطلق إلى خطوة أخرى متقدمة وزاحفة، وهكذا. ولن نستفيض هنا للتدليل على ذلك في القيام بمسح شامل لهذا النوع من السياسات فقد كُتبت حولها الكتب والأطروحات العديدة. لكننا سنركّز على بعض سياساتهم المتعلّقة بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك خصوصًا.

فمثلًا، عندما تمّ احتلال شرق مدينة القدس عام 1967ـ قام جنودهم وحاخام جيشهم برفع علمهم على قبة الصخرة المشرّفة، ولكن سرعان ما استدرك وزير حربهم موشي ديان الأمر، فقام بإنزال العلم، وأعلن أن المكان هو للمسلمين وأن مسؤولية إداراته تعود لدائرة الأوقاف الأردنية، بالإضافة لذلك قامت الحاخامية الرئيسية عندهم بإصدار فتوى تحرّم فيها على اليهود إقامة صلواتهم أو شعائرهم الدينية في المسجد الأقصى المبارك (يسمونه جبل الهيكل). ولكن لماذا فعلوا ذلك – بعيدًا عن أن نخبهم الحاكمة آنذاك كانت علمانية-؟ 

فعلوه أولًا، حتى لا يُسعّروا إثارة الخواطر ومشاعر الإهانة عند الأمة الإسلامية التي يمكن أن ترتد عليهم بالسَّلب، وثانيًا ليُظهروا نوعًا من تسامح صاحب القوة الذي يسعى لاستدراج حلول وتسويات مع محيطه المعادي، وثالثًا وهو الأهم ليتم تمرير السياسات الفعلية الزاحفة على الأرض التي من شأنها أن تصل في يوم من الأيام لفرض السيطرة الكاملة على المكان. وكان من ذلك، قيامهم على الفور بالاستحواذ على حائط البراق الذي يسمّونه "حائط المبكى/ الكوتيل"، ثم قيامهم بالتدمير الكامل لحيّ المغاربة التاريخي المحيط بحائط البراق والملاصق للمسجد الأقصى من الجهة الغربية (وعلى اسم الحي كان اسم باب المغاربة وهو أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك). وتم تدمير الحيّ الأثري بالجرافات وتشريد أهله (الذين سكنوا مخيم شعفاط في ضواحي القدس)؛ وذلك من أجل إقامة ساحة واسعة على أنقاضه ليمارسوا عليها صلواتهم وطقوسهم الدينية. 

وقد مرّ هذا الفعل العنيف والفظّ بسلاسة وكأنه أحد الإجراءات الحربية المصاحبة لفعل الحرب، ولم يثر أي نقاش دولي أو سياسي أو قانوني يُعتدّ به في حينه، كما حدث مثلًا عندما وقعت ثورة البراق الأولى عام 1929 وتشكّلت حينها لجنة بريطانية للنظر في الادّعاءات، وقد خرجت بإقرار أن البراق هو ملك للمسلمين. 
حركة الحفريات استمرت في كل بقعة تحت وحول المسجد الأقصى المبارك مذاك اليوم وحتى يومنا الراهن

كما قاموا في صيف 1967، بالإضافة لما تقدّم بإعلان ضمّهم لشرق مدينة القدس وإنفاذ قانونهم عليها، ثم البدء بفرض الوقائع الاستيطانية. وفي ذلك الصيف أيضًا بدأت حفريّاتهم الأثرية في جوار المسجد الأقصى الملاحق من جهة الجنوب (والتي أظهرت نتائجها المخيبة لهم بأنها عبارة عن قصور أموية). لكن حركة الحفريات استمرت في كل بقعة تحت وحول المسجد الأقصى المبارك مذاك اليوم وحتى يومنا الراهن.

في غضون ذلك أثار احتلال شرق مدينة القدس بما تتضمّنه من كنوز روحية، رياح صحوة دينية يهودية خلاصية "مسيحانية" أخذت تتنامى تعبيراتها من خلال حركات دينية وجمعيات ومؤسسات تعمل بشكل مثابر ومنهجي على السعي للاستحواذ على كل ما يمكن الاستحواذ عليه في مدينة القدس، فأخذت جماعة "أمناء جبل الهيكل"، ومنذ العقد الأول للاحتلال بتنظيم زيارات عادية "غير شعائرية" للمسجد في أيام أعيادهم وكانت كأنها تتم على خجل واستحياء ومواربة (خاصة وأنها كانت تواجه باحتجاجات وتظاهرات فلسطينية) لكنها كانت في كل عام تضيف شيئًا جديدًا حتى بلغ شأنها ما بلغ هذه الأيام، بعد أن سارت في النهر الفلسطيني والعربي مياه كثيرة، سمحت في المجال ليطلب الصهاينة في السنين الأخيرة التقاسم الزماني والمكاني، وغدوْا في الأعوام الأخيرة يمارسون اقتحاماتهم للحرم بصورة يومية أو شبه يومية، بل إن هناك أحزابًا دينية صهيونية تبني برامجها ووجودها السياسي على برنامج إقامة الهيكل الثالث المزعوم، ولم تعد هذه الحركات والأحزاب هامشية وعلى أطراف الخارطة الحزبية، أو توصف بالإرهابية والخارجة عن القانون، كما كانت عليه قبل أربعة عقود، أيام حركة "كاخ" بزعامة المستوطن الأمريكي الحاخام مائير كاهانا، بل غدا وزراء هذه الأحزاب، الذين نالوا شعبيتهم بصورة أساسية من خلال قيامهم بدفع الخطوات إياها، وبصورة متسارعة، إلى حافة الهاوية عدة مرات، لن يكون آخرها الدخول المتحدي والمتبجح لوزير أمنهم الداخلي الجديد اللّص المستوطن المتطرف "بن غفير" لساحات المسجد الأقصى المبارك، رغم صدور تحذيرات فلسطينية وأردنية وعربية ودولية، وربما كان بعضها تحذيرات "إسرائيلية" أيضًا.
اعتدنا سلوك "حافة الهاوية" الصهيوني هذا في عدّة مناسبات


لقد اعتدنا سلوك "حافة الهاوية" الصهيوني هذا في عدّة مناسبات، كان منها على سبيل المثال، محاولة حرق المسجد الأقصى المبارك في عام 1969 والتي على إثرها تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم محاولة تفجير المسجد الأقصى المبارك التي تمّ إحباطها في ربيع 1982، والتي أثارت هبة جماهيرية واسعة كانت من العوامل التي قادت إلى الانتفاضة الأولى، ثم ارتكاب مجزرة داخل المسجد الأقصى المبارك في تشرين الأول/أكتوبر 1990 عشية الحرب الأمريكية على العراق في نوع لقياس ردّة الفعل الإسلامية، ثم جاءت لاحقًا سياسات عزل القدس بالحواجز منذ عام 1991، وجاء اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى المبارك في أيلول/سبتمبر 2000 المتحدّي ليفجّر انتفاضة الأقصى الباسلة. ثم جاءت إحاطة مدينة القدس بالأسوار والحوارات لفرض وقائع جديدة، وفي بعض الحالات كان يُقدم الاحتلال على منع الأذان، وفي عام 2017 حاولوا وضع بوابات إلكترونية على الأبواب الخارجية للمسجد الأقصى، ثم جاءت محاولات الاعتداء ومصادرة أجزاء من محيط المسجد الأقصى كباب الرحمة والمقبرة الإسلامية الملاصقة، ثم أخيرًا السعي إلى التقسيم الزماني والمكاني للأقصى وصولًا إلى الاقتحامات شبه اليومية، والجرأة في القيام بطقوس توراتية بالغة الاستفزاز والمطالبة بحق متساوٍ في العبادة في نفس المكان مع المسلمين.. والشهية منتفخة عندهم على الدفع باتجاه السيطرة على المكان وامتلاكه وتشييد هيكلهم المزعوم عليه. 

لم يعد من المستغرب أو المُستفظع أن يُقدِموا على نسف بعض معالم صحن المسجد الأقصى الذي يتضمن أكثر من (161) أثرًا إسلاميًا
إننا اليوم أمام معادلة جديدة، لم يعد فيها السلوك الصهيوني كما اعتدناه؛ يفرض وقائعه بأقصى درجة صمت ممكنة ويدفع بخطواته بالنعومة المعهودة عليه، لأننا مع نوع آخر من القيادات الصهيونية بالغة الخشونة والمجازفة والفظاظة، خاصة وأن بعض رموزها شرقيون وعالمثالثيون كـ"بن غفير"، والذين لم يعودوا يكتفون بدفع خطواتهم وزجّها إلى حافّة الهاوية، بل إنهم يدفعون بخطواتهم وبقوة نحو الهاوية ذاتها. ولم يعد من المستغرب أو المُستفظع أن يُقدِموا على نسف بعض معالم صحن المسجد الأقصى الذي يتضمن أكثر من (161) أثرًا إسلاميًا، أو أن يدخلوا بأعداد تبلغ الآلاف لإقامة شعائرهم وطقوسهم كالنفخ في البوق، أو تقديم الذبائح والقرابين على الطريقة التي نصّت عليها شريعتهم، وغير ذلك مما لم يكن يخطر في بال.

وفي زمن الهاوية هذا الذي أخذت معالمه بالاكتمال، من خلال حمّى الدعوات اليمينية العمياء المختلفة، ها هي ملامحه النهائية تتشكّل بصورة متسارعة من خلال حجم الأخطار المتناسلة في العشرية الجديدة التي تدخل عامها الثالث. ويخبرنا التاريخ أن الطّغاة والعصبويين والمجانين لم يفلحوا في معاركهم النهائية، وعندما انتهت الصراعات كانت بالتأكيد ضدّهم ومعها حتفهم، وهذا المصير واجهه فرعون المتغطرس وأشباهه من الذين كذّبوا الأنبياء، وفي العصر الحديث كان مصير طغاة العالم ماثلًا؛ من هتلر إلى موسوليني إلى الاتحاد السوفييتي بنهاياته، إلى شاويشسكو وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وأضرابهم... ولن يكون نتنياهو ولا بن غفير ولا سموتريتش بدعًا من أمر هؤلاء الطغاة العمين.
التعليقات (0)