منذ تولي الرئيس
حسن شيخ محمود الحكم في
الصومال في أيار/ مايو الماضي، تعهد بشن حرب شاملة ضد حركة
"الشباب" وتطهير البلاد من الفوضى وتحقيق الاستقرار، وكان إبان فترة
رئاسته الأولى قبل نحو عشر سنوات قد أطلق تعهدات ووعودا مماثلة. وخلال كل هذه
الأعوام تعاقب على الصومال عدة رؤساء تعهدوا بهزيمة حركة
"الشباب" وتحقيق الأمن والاستقرار، دون أن يتحقق شيء من تلك الوعود،
بل إن الحركة تمكنت من تطوير قدراتها العسكرية والأمنية والمالية والدعائية، ونجحت
بفرض سيطرتها وتوسيع نفوذها على مناطق جغرافية واسعة وتطبيق حكمها على ديمغرافيا
كبيرة من السكان المحليين.
ورغم الحرب
الحكومية الممتدة على حركة "الشباب"، وانخراط الولايات المتحدة
الأمريكية في الحرب، ومساعدة قوات من الاتحاد الأفريقي ومشاركة دول أخرى، أصبحت حركة
"الشباب" الفرع الأقوى والأغنى في
تنظيم القاعدة، والمصدر الأكثر خطورة
لتهديد الأمن في الصومال والقرن الأفريقي والمنطقة.
يشير فشل الحرب
الشاملة ضد حركة "الشباب" إلى خلل واضح في الاستراتيجية الحكومية
والدولية التي تختزل مشاكل الصومال تحت عنوان "حرب
الإرهاب"، لكن هذه
الحرب تخفي المعضلات الحقيقية المتعلقة بتصورات بناء الدولة في الصومال، فتمرد
حركة الشباب هو أحد مؤشرات العجز والفشل التاريخي. فمنذ مطلع تسعينيات القرن
الماضي وسقوط نظام الحكم العسكري الدكتاتوري، يعيش الصومال حالة من الفوضى والانهيار
وعدم الاستقرار، وهو غارق في مستنقع الفساد وسوء الإدارة والصراعات القبلية والتنافسات
الجهوية، وينتقل من مشكلة إلى أخرى دون النظر في المشكلات والمعضلات الحقيقية،
فالتدخلات الخارجية هي إحدى المشكلات وليست وصفة للحل.
يشير فشل الحرب الشاملة ضد حركة "الشباب" إلى خلل واضح في الاستراتيجية الحكومية والدولية التي تختزل مشاكل الصومال تحت عنوان "حرب الإرهاب"، لكن هذه الحرب تخفي المعضلات الحقيقية المتعلقة بتصورات بناء الدولة في الصومال
مقاربة الحكومة
الصومالية في معالجة تمرد حركة "الشباب"، تتماهى مع المقاربة الأمريكية
والدولية في الحرب على الإرهاب، وهي مقاربة ثبت فشلها في كافة المختبرات. وفي
حقيقة الأمر فإن معظم حالات التمرد التي توصف بالإرهاب، لا تعدو عن كونها حالات
عنف سياسي وحرب أهلية، ناتجة عن فشل دولة تدار من قبل نخب فاسدة مرتبطة بشبكة من
المصالح المحلية والدولية. ففي خطابه خلال المناقشة العامة للدورة السابعة
والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي، قال الرئيس
الصومالي شيخ محمود، إن الإرهاب لا يزال يمثل تحدياً مستمراً ومعقداً للعالم
بأسره، ويساهم في تفاقم جميع الأزمات الأخرى، بما في ذلك انعدام الأمن الغذائي
والنزوح وتغير المناخ. وأضاف: "إن أهم درس تعلمناه من الحرب الحديثة الطويلة
ضد الإرهابيين والإرهاب الدولي هو أنه لا يمكن احتواؤهم أو التقليل من شأنهم.
علينا هزيمتهم بشكل شامل أينما كانوا".
لا شك أن خطاب
الرئيس الصومالي يعد وصفة نموذجية في التعبير عن فشل سياسة الحرب على ما يسمى
"الإرهاب"، حيث تختزل كافة المشاكل المعقدة للصومال في سبب وحيد، رغم أن
عنف حركة الشباب هو نتيجة متوقعة لفشل الدولة وعجزها، فحركة الشباب هي مجرد تعبير
عن فقدان الخيارات في ظل غياب الدولة وفقدان السيادة والإخفاق في تلبية أبسط
احتياجات الناس الضرورية في الأمن وتوفير الحاجات الأساسية والحياة الكريمة، لكن
الرئيس الصومالي يصر على تكرار ذات الوصفة السامة لحرب الإرهاب، وهو يعيد ذات
الأخطاء بعناد شديد.
في أحد
الاجتماعات الشعبية الحاشدة، صرّح الرئيس محمود، دون مواربة، بالقول "أنتم
معنا في الحرب أو مع العدو". وهي مقولةٌ تذكّر بمقولة بوش الابن غداة 11 أيلول/
سبتمبر الأمريكية، حيث تُنعت حركة الشباب بالشر النقي الخالص، دون أن تفسح الحكومة
المجال لأي جهد للمصالحة والبحث عن حل واقعي ممكن. وفي حقيقة الأمر فإن النهج
المتطرف في التعامل مع حركة الشباب أدى إلى ظهور جماعة أشد راديكالية، وهي ولاية
الصومال التابعة لتنظيم الدولة، وسوف تستثمر أي تراجع لحركة الشباب، وهو منطق
مفهوم.
أي مقاربة ناجحة للتعامل مع "حركة الشباب"، لا بد أن تستند إلى فهم ماهية الحركة ومصادر قوتها وأسباب ظهورها، ولا يمكن التعامل معها كحركة عدمية تنشد الموت والخراب، رغم ممارستها تكتيكات عسكرية عنيفة ومدمرة، فهذه التكتيكات جزء من استراتيجية تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية
إن أي مقاربة
ناجحة للتعامل مع "حركة الشباب"، لا بد أن تستند إلى فهم ماهية الحركة
ومصادر قوتها وأسباب ظهورها، ولا يمكن التعامل معها كحركة عدمية تنشد الموت
والخراب، رغم ممارستها تكتيكات عسكرية عنيفة ومدمرة، فهذه التكتيكات جزء من
استراتيجية تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية. فقد أصبحت حركة الشباب جزءا من واقع
الصومال وهي متغلغلة في كافة مناحي الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية، وتقوم بسد
فراغات ناتجة عن ضعف النظام الحكومي وسلطة الدولة، وتتفوق على الدولة في جوانب عدة
في حكامتها المحلية وبكفاءة وفاعلية أكبر.
ويصف خبراء الأمم
المتحدة حركة "الشباب" بأنها أقوى وأغنى فرع لتنظيم القاعدة، ويُقدرون
أن لديها نحو 12 ألف مقاتل، إلى جانب القدرة على جمع إيرادات شهرية تبلغ حوالي 10
ملايين دولار، تجنيها من الضرائب التي تفرضها على سكان في مناطق سيطرتها. إذ تعمل الحركة
على جمع الضرائب من كل مناطق الجنوب أكثر مما تفعله الحكومات المحلية الفيدرالية، فقد
بلغت ميزانيتها في عام 2022 نحو 288 مليون دولار بحسب مركز "هيرال"
للدراسات الصومالية.
وتفيد تقارير
ميدانية عديدة بأن الكثير من الصوماليين باتوا يلجأون إلى محاكم الحركة لفضّ
النزاعات، لتجنّب الإجراءات الحكومية البيروقراطية الشاقة، وتفادي الرسوم الباهظة،
في ظل نظام تهيمن عليه المحسوبية والواسطة في بلدٍ يقبع في أسفل مؤشّر تصنيفات
الفساد لمنظمة الشفافية الدولية منذ عام 2006.
منذ الإعلان عن
شن حرب شاملة على حركة الشباب، عقدت اجتماعات دولية وإقليمية ومحلية، واستدخلت
العشائر في الحرب. وفي خطوة تتناقض مع سياستها خلال السنوات الأخيرة، قررت
الولايات المتحدة إرسال 450 من قواتها الخاصة إلى الصومال لمساعدة شركائها في
القرن الأفريقي على "مكافحة الإرهاب" ومواجهة حركة الشباب الصومالية،
وهو ما يتناقض مع توجهات واشنطن بإعادة القوات الأمريكية من الخارج، سواء العراق
أو أفغانستان، بذريعة إنهاء الحروب التي لا تنتهي، وهو ما تبناه الرئيس السابق
دونالد ترامب عندما قام بسحب 700 جندي أمريكي من الصومال، لكن الرئيس جو بايدن
الذي أعاد القوات الأمريكية إلى الصومال يعبر بطريقة واضحة عن فشل استراتيجية
"الحرب من الأفق" في التعامل مع خطر الإرهاب.
فمنذ انسحاب
القوات الأمريكية تنامت قدرات حركة الشباب، وحسب مسؤول في البيت الأبيض، فإن حركة
الشباب الصومالية التابعة لتنظيم "القاعدة"، زادت وتيرة هجماتها، بما في
ذلك ضد الأفراد الأمريكيين، إضافة إلى أن قدراتها في ساحة المعركة وإمكاناتها
المالية، تجعلها قادرة على تخطيط وتنفيذ هجمات خارجية ضمن مساحة أكبر، وهو ما
تؤكده كافة البيانات والمؤشرات. وحسب "مركز أفريقيا للدراسات
الاستراتيجية"، ارتفع عدد هجمات حركة الشباب من 1771 إلى 2072 في العام
التالي لانسحاب القوات الأمريكية من الصومال، بزيادة قدرها 17 في المئة، كما ارتفع
عدد المعارك مع قوات الأمن الصومالية 32 في المئة. وشنت الحركة هجمات واسعة ومن
أبرزها الهجوم الذي جرى في شهر آب/ أغسطس الماضي، على فندق "الحياة" في
العاصمة مقديشو؛ ما أسفر عن مقتل 21 شخصاً وإصابة آخرين. وقامت الحركة بشن هجوم واسع
في أيار/ مايو الماضي على قاعدة للاتحاد الأفريقي في جنوب الصومال، ما أسفر عن
مصرع ما لا يقل عن 40 جندياً بوروندياً.
قوة حركة الشباب
لم تقتصر على الساحة الصومالية، فقد شنت هجمات إقليمية، وتمكنت من التوغل إلى
العمق الإثيوبي عبر إقليم الصومال الإثيوبي في 20 تموز/ يوليو 2022، ورغم صد القوات
الإثيوبية للهجوم، تفيد تقارير بوجود عناصر للحركة في إثيوبيا، كما شنت الحركة عدة
هجمات ضد القوات الكينية على طول الحدود الكينية الصومالية، ومنها الهجوم بقذائف
هاون في 2 آب/ أغسطس 2022 على قاعدة للجيش الكيني في منطقة كونتون بالقرب من قوروف
هرار التابعة لمقاطعة مانديرا في إقليم شمال شرق كينيا؛ ما أسفر عن وقوع إصابات
بالقوات الكينية. وهو الهجوم الذي سبقه هجومان للحركة خلال شهري حزيران/ يونيو وتموز/
يوليو في منطقتَي جاريسا ومانديرا في شمال شرق كينيا. وكانت حركة الشباب قد شنت هجمات
خارجية عدة سابقاً، مثل الهجمات التي أودت بحياة 67 شخصاً في مركز تجاري في كينيا
عام 2013، وكذلك مصرع 147 آخرين في جامعة كينية عام 2015، كما قتلت حركة الشباب
عام 2020 ثلاثة أمريكيين كانوا يدربون قوات مكافحة الإرهاب الكينية.
الحرب الشاملة التي تشنها الحكومة الصومالية على حركة الشباب لا يمكن أن تفضي إلى القضاء على الحركة، ولذلك فإن السبيل الأمثل هو تشجيع المصالحة بين النخب الصومالية، وضرورة أن يشمل ذلك بدء حوار سياسي مع الحركة حول كيفية التفاوض على إنهاء الحرب
على مدى سنوات
برهنت سياسة الحرب على الإرهاب عن فشل كبير، وكانت أحد أهم الأسباب في تنامي
الإرهاب والعنف والتطرف، وذلك بسبب الإصرار العنيد بالتركيز على الطرق والأساليب
العسكرية لمكافحة الإرهاب، وعدم التركيز بشكل كافٍ على كيفية مساعدة الدول التي
تسعى إلى معالجة تحديات الأمن والحوكمة الهيكلية. وعوضاً عن البحث عن حلول مستدامة
تلجأ الحكومات الفاشلة إلى عسكرة الدولة و"أمننة" المجتمع، وتعمل على
استدعاء قوى دولية وإقليمية، وهو ما يؤدي إلى إذكاء التنافس والصراع بين الدول،
ويمنح حركات التمرد المزيد من الحجج لمواصلة القتال، ويتسبب بعدم الاستقرار، وهو
ما يكشف عن الدورة الجهنمية المرتبطة بالحرب. فقضايا مكافحة الإرهاب سوف تبقى متشابكة
دوماً مع المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، إذ لم تكن حرب الإرهاب سوى ذريعة
لتحقيق الهيمنة.
ثمة إجماع بين
الخبراء والباحثين على أن الحرب الشاملة التي تشنها الحكومة الصومالية على حركة
الشباب لا يمكن أن تفضي إلى القضاء على الحركة، ولذلك فإن السبيل الأمثل هو تشجيع
المصالحة بين النخب الصومالية، وضرورة أن يشمل ذلك بدء حوار سياسي مع الحركة حول
كيفية التفاوض على إنهاء الحرب. ولا يبدو خطاب الرئيس شيخ محمود مشجعاً على
الحوار، ومع ذلك، لا تزال حركة "الشباب" مصرة على القتال، ولا توجد سوى
مؤشرات ضعيفة على قبول الحركة الانخراط في حوار مثمر، رغم جهود بعض الدول في هذا
الشأن مثل قطر. وقد أبدت الحركة في وقت سابق عام 2018 إمكانية التفاوض على إنهاء
الحرب، ومن الواضح أن ثمة نخب فاسدة مستفيدة من عدم التوصل إلى اتفاق، وكذلك دول
عدة تستثمر في الحرب والفوضى.
حركة "الشباب"، هي أحد أعراض العجز والفشل وغياب الإجماع حول حكم الصومال، وهي تعبر عن فقدان الخيارات، وهو ما مكنها من التكيّف مع سياسة حرب الإرهاب، والصمود والبقاء والتمدد
خلاصة القول أن
معضلات الصومال أعمق من اختزالها في تمرد حركة الشباب، فالمشكلة الأساسية التي
تواجه الأمن والاستقرار في الصومال تتمثل بعدم وجود اتفاق بين النخب السياسية
والدينية والعشائرية ورجال الأعمال الصوماليين، حول كيفية حكم بلادهم وتصورات بناء
الدولة، إذ لا يزال الصومال تفتقر إلى وجود دستور نهائي متفق عليه، ولا يوجد اتفاق
على طبيعة الحكم الفيدرالي، وتستمر الاختلافات حول هياكل الجيش والأمن.
فحركة
"الشباب"، هي أحد أعراض العجز والفشل وغياب الإجماع حول حكم الصومال،
وهي تعبر عن فقدان الخيارات، وهو ما مكنها من التكيّف مع سياسة حرب الإرهاب،
والصمود والبقاء والتمدد. ولذلك فإن أي حديث عن هزيمة الحركة والقضاء عليها لا
يستند إلى الحقائق، ولا يمكن تحقيق الاستقرار والأمن في الصومال دون دعم تسوية
تفاوضية لإنهاء الحرب.
twitter.com/hasanabuhanya