عن "دار
أبجديات" بتونس صدرت
السيرة الذاتية للمسرحي توفيق الجبالي بعنوان
"توفيق الجبالي سيرة تمرد وإبداع وصدف" في 325 صفحة من الحجم المتوسط،
في صياغة لكريم السمعلي المقيم بكندا. المؤلف حاصل على شهادة الماجستير في علوم
التصرف والإدارة، ومهتم بالعلوم الإنسانية، خاصة الفلسفة السياسية وتاريخ الإسلام
المبكر ونقد الفكر الديني، وله شغف بالآداب والفنون.
هي أول سيرة ذاتية
لفنان
مسرحي في تونس "سيرة ذاتية مرخصة" سيرة تمرد وإبداع وصدف. يقر
المؤلف بداية أنه كان طيلة أربعين ساعة من الحوار والتواصل مع توفيق الجبالي أمام
شخص مسالم ومتواضع وجميل الروح وحاد الذكاء لاذع... قلت له: "يجب أن يكون هذا
الكتاب في مستوى قيمتك الفنية"، وكان يهون علي بقوله: "خذ هذا العمل
كلعبة إن لم تنجح فيها فلن نخسر شيئا سنربح المتعة".
حياء واحتشام
ماذا عن هذه السيرة
الذاتية المرخص فيها- والنعت للسيرة ساخر يخفي ما يخفي من دلالات وإيحاءات جميلة؟
يقول المؤلف "قد يتساءل القارئ أي دور للكاتب في هذه السيرة؟ هل أنا مجرد
كاتب شبح؟ لقد تقمصت الشخصية المترجم لها، ولا أستطيع أن أجيب بأفضل مما أجابني
المعني بالأمر في مراسلة خاصة بعد اطلاعه عن النسخة شبه النهائية: "سيدي
العزيز أتممت اليوم قراءة النص، مجهودك جبار، وعملك ثمين، جعلتني أستمتع وكأني لست
المعني بهذا، أسلوبك رائق ودقيق".
ويرجو المؤلف أن يصنف
هذا الكتاب كأول سيرة ذاتية وفنية مرخصة لمبدع سيكتب لأعماله الخلود لأنه كان حرا
ومخلصا لجذوة ذكاء هذا الشعب."
تقسيم الكتاب وتبويبه،
وروح الكتاب، وجمله القصيرة المباشرة، توحي كأن من كتبها هو توفيق الجبالي دون
وسيط أو محاور. وهذا ما عناه المؤلف الذي نجح بشكل مذهل في تقمص شخصية المحاور
واستبطان واستكناه معانيه ومشاعره، وحتى انفعالاته. ولعل اختيار المؤلف لتوفيق
الجبالي كان بداية التوفيق، فالرجل كتلة من التمرد على السائد، وهو متجذر في عمق
محيطه، وثري الأبعاد، منفتح على جيله وثقافة عصره، جريء وساخر، لطيف وحسن المعشر،
تسكنه بذرة الإضافة، وما زالت به مسحة حياء لم تفارقه، فحين تحدث عن أحداث ماي
1968 اعترف أنه لم ينخرط في الثورة الجنسية "لم أنخرط فيها وما كنت مهيأ
ثقافيا لذلك كانت لي صديقة تونسية وكانت بيننا علاقة طبيعية كمتحابين فمن ركائز
شخصيتي الحياء والاحتشام إلى اليوم وإلى الغد".
كل هذه العوامل كانت
تصب في خدمة المؤلف الذي عثر على منجم متدفق من المواقف والمشاعر، والرصيد
والإضافات التي تراكمت بفعل تجاربه المتنوعة وثقافته الواسعة ذات البعاد المتنوعة
يمينا ويسارا، وغرف من كل المناهل. ولولا المبالغة، لقلنا دون حرج إن توفيق
الجبالي يشكل العلامة الأولى الرائدة التي أثرت في المشهد الثقافي التونسي
والمسرحي على وجه الخصوص، وقد ظلمته بعض التصنيفات القاصرة التي أرادت اختزاله في
"كلام الليل" رغم أهمية التجربة.
أعرف تونس أكثر منك
وككل سيرة هناك بدايات
نشأة صارمة في كنف أم وديعة، وأب حازم، أحداث طبعت طفولة توفيق الجبالي في قصر
هلال مسقط رأسه، وصفعات من والده لا تنسى. ويذكر الجبالي كيف كان التواصل مع والده
مقتضبا "لو أخذت قلما وورقة لكتابة العبارات التي تبادلتها مع الوالد كامل
حياتي لما تجاوزت صفحة، صباح الخير وبالشفاء وتصبح على خير وعيدك مبروك وع السلامة
وصح النوم". وفي الفصول الموالية حديث عن الانتقال إلى العاصمة تونس، ومجال
لوصف حالات المراهقة والشباب، وكيف أراد تعلم العزف على آلة الكنترباص، لكن أستاذ
الموسيقى في معهد ابن رشد أشار عليه بآلة الإيقاع، هل أوقع به، أم وجهه ليكون
ضابطا لإيقاع أي فريق يلتحق به ولإرشاده لأن الروح الكاريزمية لا تقبل غير ضبط
الإيقاع داخل أي مجموعة وعدم الخضوع للإملاءات. نال حصانة لكونه الكاتب العام
للشبيبة المدرسية التابعة للحزب أنذاك وبدأ يتحدى سلطة الإدارة، كان دائما أول
المضربين و"لا شي لدي أخسره". هذا المشاكس خرج من باب الفضول كما يقول
في المظاهرة المؤيدة لبورقيبة سنة 1961 والتي تطالب فرنسا بالجلاء عن قاعدة بنزرت.
وما يذكره توفيق الجبالي أنه تم تعيينه مرافقا للحزب الاشتراكي الفرنسي بصفته عضوا
في الشبيبة المدرسية" وكنت أقدم له بعض معالم البلد فقال لي: أعرف البلد أكثر
منك، هل تريد أن أخبرك عن عدد أعمدة الضوء؟" ويكشف الجبالي تعرفه إلى بورقيبة
لأول مرة مباشرة قال له بورقيبة: "ع السلامة ولدي".
لكن توفيق الجبالي لم
تفارقه حكاية: "ومما احتفظت به في ذاكرتي قول ممثل الحزب الاشتراكي لبورقيبة
حذرتكم من المعارض رزق الله لكنكم لم تتجاوبوا معي. فاستنتجت أن الحزب الدستوري
كان يتعامل مع الأجهزة الاستخبارية الفرنسية حول معارضيه في الداخل، فكان مشهدا
مثيرا للدهشة.
توفيق الجبالي تحدث عن
تجربته الإذاعية التي طبعت مسيرته فمازال يذكر بانبهار الممثل حمودة معالي، وهو
يمثل دور رجل يلاحقه كلب يريد عضه، وكان يضربه بالعصا كي يقتله ويبعد الأذى عن
نفسه. وكان معالي يلعب دوره، ودور الكلب الذي سيقتله في الحين ذاته، وظل يمثل ذلك
الصراع وهو يقلد صوت الكلب، ولم يكن المستمع يميز بين صوت الكلب وصوت الممثل.
ويعلق الجبالي قائلا: "إنه لأمر مدهش ويستحق أن يدرس في معاهد التمثيل. ورغم
الخبرة التي كسبها فانه يقر أن التجربة الإذاعية الحقيقية، هي تلك التي اقتنصها
بالقسم العربي بالإذاعة الفرنسية حيث اشتغل، لأن الإذاعة التونسية لم توفر له سوى
أدوار ثانوية لا تكسب خبرة. ويعترف بأنه لم تكن له طموحات ليصبح ممثلا كبيرا، كان
هواه على الهامش ليحلق خارج السرب مع مجموعة منها محمد القرفي الذي كان يلحن بعض
ما يكتبه الجبالي.
علي بن عياد وزكي
طليمات
البيان 11 أو مانفستو
1969 الذي شكّل منعرجا في تاريخ المسرح التونسي، كان فصلا مهما من فصول الكتاب. من
اتفقوا على تحرير البيان 3 فرج شوشان والمنصف السويسي وتوفيق الجبالي، الذي سيصبح
أحد مؤسسي فرقة المسرح الجديد، أول فرقة مستقلة في تاريخ المسرح التونسي وصاحب أول
فضاء مسرحي خاص، قبل أن يلتحق بهم اخرون وقعوا على البيان. كان علي بن عياد يمثل
السلطة، وهو يحتكر الفعل المسرحي، بل كان واجهة للسلطة القائمة، وكان التمرد عليه
تمردا على السلطة بصفة غير مباشرة. هل كان بيان 11 قتلا رمزيا للأب؟ هل كان ردا
غير مباشر على زكي طليمات الذي قال هذه البلاد - ويقصد تونس- لا يمكن أن ينشأ فيها
مسرح عظيم.
التجربة الفرنسية
لتوفيق الجبالي كانت ثرية ولعل أبرز عناوينها ما قالته زوجته الأولى الأمريكية
جانيت التي حسمت الأمر وغيرت وجهته: " أنت الآن في فرنسا، ما الذي يمكنك
فعله؟ ما هو مستقبلك؟ تريد أن تكون مسرحيا فهل يمكنك ذلك هنا في فرنسا؟ أنت لا
تستطيع أن تكون مسرحيا إلا في بلدك، لن تستطيع أن تكون مسرحيا في فرنسا".
وكان الجبالي اشتغل في فرنسا إذاعي ربط، ومنشطا لحصص ليلية تدوم 3 ساعات، خلافا
لبرامجه الشخصية. لم يكن موظفا رسميا، بل كان متعاونا، نقل عدة حفلات مثل حفل أم
كلثوم وعبد الهادي بلخياط. كان عمله الإذاعي دون شغف أو طموح وظيفي، رغم مزاملته
لعدة أسماء كبيرة ك "جاك شانسال" الذي كان الجبالي من متابعي برامجه،
وكان مكتبه قبالة مكتب توفيق الجبالي. وكانت تتبعه إلى الأستوديو حيث يقدم برامجه،
عربتا أكل، في حين تفتقر الإذاعة العربية إلى قارورة ماء. عاش توفيق الجبالي أحداث
ماي 1968التي أثرت فيه وهو الذي شارك في الوقفة الاحتجاجية التي امتدت إلى الفجر.
وحول هذه التجربة يقول توفيق الجبالي: "كنت تونسيا في باريس، وكانت حياتي
الباريسية تونسية."
جحود من أصابهم
الوسواس القهري
العودة إلى تونس
اقترنت بالمسرح الجديد ثم الانفصال عنه والاستقالة من مهنة التدريس، ويشير توفيق
الجبالي إلى الجحود الذي تعرض له: "ومن حسن أخلاق الجماعة - ويقصد جماعة
المسرح الجديد- أنهم في أدبياتهم لا يذكرون اسمي بتاتا بين المؤسسين أو المشاركين
في الأعمال الأولى. وكان الجبالي قد خص بعض أفراد المسرح الجديد في معرض حديثه عن
انتحار الحبيب المسروقي، بأوصاف شنيعة "كان أعضاء الفرقة يحملون بذرات جينية،
لذلك النوع من السلوك من جنون العظمة، إلى الوسواس القهري، إلى التخريف
والتكتم."
جاءت التجربة المصرية
بحكم أن زوجته جانيت كانت في وسط أكاديمي تم ربط علاقات واسعة مع مثقفين
وأكاديميين مصريين. شهد الجبالي عشرات الأحداث منها وفاة عبد الحليم حافظ ومقتل
يوسف السباعي، وزيارة السادات إلى تل أبيب ومشاهدة مسرحية "شاهد ما شافش
حاجة" التي غادرها بعد ربع ساعة من انطلاقها "سئمت من ركاكة
المسرحية". كما تعرف إلى نجيب سرو، وكانت بينهما حكايات.
وبعد عودته من القاهرة
أسس مع رجاء بن عمار مسرح "فو"، قضى فيه سنتين "مسرح فو، لا علاقة
له من ناحية، بالتسمم بما عشته بالمسرح الجديد. مسرح فو كان مترعا بالصداقة
والوفاء والكرم".
الجبالي تحدث في
مذكراته عن مرحلة تأسيس اتحاد المسرحيين التونسيين، ثم نقابة المسرحيين، واعتبر في
هذا السياق أن فاضل الجزيري الذي تم اختياره لرئاسة اتحاد المسرحيين، قد خان
المجموعة ثلاث مرات: "فالذي شرفناه طعننا ثلاث مرات، الأولى، بعدم تسليم محضر
تأسيس الجمعية لوزارة الداخلية. والثانية، بالإيحاء بإنشاء المسرح الوطني، وتسمية
المنصف السويسي في تعارض كامل مع ما اتفقنا عليه مع الوزارة والثالثة، بالمناورة
لطلب العفو كل ذلك باسمنا وبدون علمنا."
الجبالي خصص حيزا مهما
من سيرته للحديث عن فضاء "التياترو" وما لاقاه من صعوبات وعراقيل، ودور
رفيقة دربه الراحلة زينب فرحات. وتطرق إلى "كلام الليل" الذي اجتذب
جمهورا كبير "حجب نجاحها نجاحات أخرى في ألوان متعددة ومغايرة مثل
"عطيل" و"هنا تونس" و"فهمتلا" و"المجنون"
وغيرها. لماذا غطت "كلام الليل" الأعمال الأخرى؟" المتفرج التونسي
استهلاكي لا يطلب الكثير من الفن إلا بما يدغدغ كوابته الاجتماعية والسياسية. هو
كائن اجتماعي غريزي وليس له متطلبات أبعد من يومياته. التياترو ليس فقط "كلام
الليل"، والإضحاك ليس مهنتي، اهتماماتي مسرحية ولي مراجع مخالفة وأهداف
مغايرة لا علاقة لها بأصحاب الدكاكين من الفكاهيين. أنا أعمل بالمسرح لأني أريد أن
أهذي بحضور الجمهور لأني إن بقيت أهذي وحدي بالبيت سأعتبر مجنونا لكن عندما أهذي
أمام الجمهور أصبح فنانا".