كتاب عربي 21

كأس العالم وصراع العروش

محمد هنيد
1300x600
1300x600

بقطع النظر عن الحدث الرياضي العالمي فإن تحوّل الثروة والتأثير الحضاري نحو الشرق صار مزعجا لمراكز القرار العالمي القديمة. بعبارة أخرى فإن ما وراء الحدث التنظيمي أهم بكثير جدا مما هو أمامه لأن الحملة الإعلامية المرعبة التي قادتها مراكز القرار العالمي تخفي وراءها أبعادا أعمق من محاولة تشويه صورة قطر بما هي الشجرة التي تخفي الغابة الكثيفة.
 
مسألة تشويه قطر مسألة قديمة بل صارت روتينا سخيفا مملا والحملات الإعلامية ضدها لم تتوقف يوما في إطار الحرب العالمية على كل تجربة جديدة ناجحة قد تهدد نجاحات الكبار وعروشهم الحضارية. لكن طبيعة الدولة الجديدة التي ترفع راية هذا النجاح وما تجرّه وراءها من رمزيات حضارية وتاريخية وعقائدية هو الذي يشكل خطرا على النظام العالمي الذي تهدده أشباح الشرق من الخليج ومن الصين ومن روسيا.
 
إنه الكابوس القديم الذي يطل برأسه على أوروبا القارة العجوز وعلى سطوة العم سام. تلوح في الأفق إذن فيالق التغيير وكأن رياح الشرق تهب على الغرب من جديد فتؤرق روحه وتبعث كوابيسه القديمة وهو الذي ظن أن العنقاء لن تنهض من جديد وأن الزمن الحضاري قد أنهى دورته الأخيرة إلى الأبد. 

حلم السيدة العجوز 

بعد أفول الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى وخاصة منها الفرنسية والبريطانية رسخ في ذهن العالم أن مركز الحضارة والثروة والتأثير لن يبرح نطاق الغرب وأن مشاريع التمدد الاستعماري المسلح للاستحواذ على ثورات الشعوب وأراضيها لم يعد ممكنا بالسهولة التي كانت عليها في الماضي. جمعت هذه الامبراطوريات ثروات خرافية ضخمة لا يمكن حصرها من أراضي المستعمرات والشعوب التي احتلتها بقوة المدافع والنار وبها شيدت مدنها ومصانعها وحضارتها المادية. حملت القوى الاستعمارية معها جزءا كبيرا من الإرث المعماري والعلمي والحضاري والثقافي للدول التي احتلتها خاصة فيما يتعلق بالمخطوطات النادرة والآثار العظيمة التي تزين اليوم متاحفها قبل أن تتهم الدولَ التي احتلتها بأنها تعاني فقرا حضاريا وأنها استعمرتها لتنشر الحضارة والعلم.

 

مسألة تشويه قطر مسألة قديمة بل صارت روتينا سخيفا مملا والحملات الإعلامية ضدها لم تتوقف يوما في إطار الحرب العالمية على كل تجربة جديدة ناجحة قد تهدد نجاحات الكبار وعروشهم الحضارية.

 



بعد تفكيك أوصال الرجل المريض في الشرق عبر سايكس بيكو أفاقت أوروبا على أوجاعها القديمة خلال الحرب العالمية الأولى والثانية لتفقد مركزيتها العالمية التي انسحبت غربا نحو ما وراء الأطلسي لكنها نجحت خلال ذلك في زراعة الكيان الاستيطاني في أرض فلسطين التاريخية حتى تمعن في تقسيم الجسد العليل. استعادت السيدة العجوز عافيتها بعد هزيمة النازية لكنها بقيت رهينة مشروع مارشال الأمريكي الذي لا يزال إلى اليوم يسيطر عليها عبر اقتصاده وبنوكه وثقافته وعبر قواعده العسكرية المنتشرة في كل مكان. 

آلام الاستفاقة 

لكن حلم الهيمنة الحضارية لم يدم طويلا مع عودة كوابيس الماضي وأحلامه المرعبة فالصين تتمدد اقتصاديا في قلب أوروبا وحتى في مستعمراتها القديمة وخاصة في أفريقيا. وكذا الدب الروسي الذي أفاق من سباته الطويل بعد أن حسب الجميع أن انهيار الاتحاد السوفياتي قد دق آخر مسمار في نعشه بل ها هو اليوم يطرق أبواب أوروبا من الشرق مطالبا بمستعمراته القديمة عاريا من تهمة الشيوعية.
 
لكن الطرفين لا يحملان من المقومات الحضارية والقرب الجغرافي والمشترك التاريخي ما يجعلهما خصما عنيدا للمشروع الحضاري الامبريالي الغربي لأنهما لا يملكان بدائل ثقافية لسانية أو عقائدية أو حضارية قادرة على منافسة المشروع الغربي. وحده الشرق القديم مهد الديانات الثلاث ومهد الحضارة القديمة حيث نشأ الحرف وعُلّمت الكتابة وولد العلم وبنيت الأهرامات وحدائق بابل المعلقة ... قادر على ذلك. هذا الشرق الذي طال سباته وامتدت جراحه قرونا من الزمن بدأ يطل برأسه من خلف الحجب وهو يرفض الموت ويخرج كالعنقاء من تحت الرماد.
 
كانت ثورات الربيع رغم فشل موجتها الأولى دليلا على أن الجسد لا يزال نابضا بالحياة وأنه لا يزال يقاوم رافضا رفع راية الهزيمة رغم كل أغلال الاستبداد والفساد والانقلابات التي كبّل بها. هو كذلك الشرق المباشر ممثلا في تركيا التي تكاد تفلت من الهيمنة الغربية بعد أن تحولت لاعبا مركزيا في صراعات الشرق والغرب وفي ملفات أوروبا المعقدة. 

قطر أو القاطرة المخيفة

قطر كحروف الجر في اللغة العربية. قطر صغيرة الحجم لكنها كحروف الجر أنشط مفردات العربية وأكثرها حضورا وأكثفها معنى. قطر كحروف الجر لا تحمل معناها في نفسها فقط بل معناها في غيرها كما يقول سيبويه. هذا البلد الصغير مساحة وسكانا كما تلح على ذلك مئات المقالات التي تستبسل في تشويه صورته نجح فيما عجز عنه كبار العرب مساحة وسكانا. كيف؟ 

لا نقصد بالنجاح ما حققته قطر على مستوى البنية التحتية والبشرية في قطاعات البناء والتشييد والصحة والتعليم والثقافة والرياضة ... فهذا ليس مدار الحديث. النجاح الأخطر والذي يعيه القائمون على حملات التشويه ضد الدوحة أنها تحولت في وقت قياسي إلى نموذج للتحرر من وظيفة المفعول به ومن مقعد المتفرج إلى وظيفة الفاعل وساحة الفعل.

 

قطر كحروف الجر في اللغة العربية. قطر صغيرة الحجم لكنها كحروف الجر أنشط مفردات العربية وأكثرها حضورا وأكثفها معنى. قطر كحروف الجر لا تحمل معناها في نفسها فقط بل معناها في غيرها كما يقول سيبويه.

 



تنظيم كأس العالم مؤشر وناقوس خطر لوكلاء الهيمنة الحضارية القديمة على أن قاطرة صغيرة ما قد تنجح في تحريك القطار الكبير قطار الجسد النائم منذ قرون. وأخطر ما في القاطرة الصغيرة أنها تتقدم حضاريا وعجلاتها ثابتة في تربتها العربية الإسلامية فلم تتنازل عن قيمها الحضارية والثقافية رغم شراسة الهجوم عليها بأسلحة حقوق الإنسان وحقوق الشواذ وتلويث المحيط واستغلال العمال.
 
يدرك أعداء قطر في الغرب أن أخطر ما في حركة التاريخ تلك التفاعلات التي تعتمل فيما يُعتقد أنه هامش وإلا لما فهمنا شراسة الهجمة على بلد صغير لا يملك أبعادا عملاقة كتلك التي تملكها مصر أو السودان أو الجزائر! لمَ كل هذا الهلع إذن ولمَ كل هذا التركيز على قطر وهي التي تعرف بسخائها الاستثماري مع الدول الغربية التي تهاجمها؟ 

صحيح أنّ قطر ليست تلك الامبراطورية التي قد تهدد العالم فلا الحجم ولا المساحة ولا عدد السكان يسمحون بذلك لكن خطر الدوحة يكمن في احتمال العدوى. كانت رؤية الشيخ المؤسس ثاقبة حين صنع أول قصص النجاح الإعلامي ممثلة في قناة الجزيرة التي خاضت أحمى معارك الوعي علاجا بالصدمة لخلايا الجسد العليل لكنه لم يكن يعلم أن الواقع سيتجاوز الحلم رغم التضحيات والآلام ورغم عداوات ذوي القربى وكيدهم.
 
الخوف كل الخوف من أن يغري المنوال القطري دولا عربية أخرى بالاستفاقة وتحويل ثرواتها البشرية والطبيعية الضخمة في مصر وليبيا والجزائر والسودان والعراق والمغرب وتونس واليمن... إلى روافع لنهضة حضارية شاملة. هذه النهضة هي التي ستعيد بناء الإنسان مما قد يودي إلى سريان الروح في كل الأطراف وانصهار الجسد العليل ثم استفاقة قد تهدد فعلا بانزياح المركز الحضاري نحو الشرق. 


التعليقات (1)
كيد الصهاينة ضعيف
الجمعة، 11-11-2022 10:20 ص
هذا يزعج صهاينة الغرب طبعا لكن ما يسلب عنهم النوم هو تلك الروضات و المدارس التي إمتلأت بالمسلمين النجباء في أوروبا و غيرها، منعوا عن أطفال سوريا الحرية و هؤلاء هم أجيال أوروبا القادمة