الرحيل
المفاجئ للأستاذ إبراهيم منير، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان والقائم بعمله،
مثّل خسارة كبيرة لجماعة الإخوان التي تعيش ظروفا صعبة منذ انقلاب الثالث من تموز/
يوليو 2013 وحتى الآن، ذاك الزلزال الذي ترك تداعياته على الجماعة وغيرها من القوى
المصرية، لكن الجماعة الأكبر كانت أيضا صاحبة النصيب الأكبر من تلك التداعيات.
الموت
حق، لكن وفاة قائد أكبر جماعة في لحظة حرجة بالنسبة لها وللوطن ككل هو خسارة
بالتأكيد، فالرجل كان قد أعلن سياسة جديدة لجماعته لحلحلة الأوضاع السياسية
الراكدة، وتعرض في سبيل ذلك لانتقادات من هنا وهناك، لكنه صمد في مواجهتها، خاصة
أنه تلقى دعما من قطاعات أوسع داخل الجماعة وخارجها لذلك الطريق الجديد الذي كان
أبرز عناوينه هو تجنب الصراع على السلطة التنفيذية في ظل هذه الظروف المضطربة التي
تمر بها مصر. لقد أراد بهذا الإعلان الذي وثقته الجماعة لاحقا في وثيقة مكتوبة أن ينهي
"فزاعة الإخوان" التي ترفع في وجه مساعي التغيير، وكانت رسالته واضحة للأطراف
الراغبة في التغيير أو الخائفة منه، سواء داخل مؤسسات الدولة أو القوى السياسية
المعارضة، أو القوى الإقليمية والدولية. وقد سارع السيسي شخصيا للتشكيك في تلك
الرسالة، والادعاء أنها تمهيد للعودة مجددا بطريق مختلف!!
عرفت
إبراهيم منير رحمه الله بشكل مباشر منذ منتصف التسعينات، من خلال زيارة مباشرة إلى
مكتبه وسط لندن (كنت أعرفه اسما وشكلا فقط من قبل). لم تتغير انطباعاتي عن الرجل
طوال المدة الماضية بل كانت تتأكد يوما بعد يوم، لقد ذكرني منذ البداية بشخصية
المرشد الراحل عمر التلمساني، فهو الأشبه به شكلا ومضمونا، رجل سمح، عف اللسان،
هادئ الطباع، خفيض الصوت، مستمع جيد، متقبل للنقد، منفتح على الثقافات والرؤى
المختلفة، صاحب مبادرة، أفادته إقامته في لندن لحوالي نصف قرن في فهم تعقيدات
السياسة الدولية وطرائق تفكير الغرب.
أراد بهذا الإعلان الذي وثقته الجماعة لاحقا في وثيقة مكتوبة أن ينهي "فزاعة الإخوان" التي ترفع في وجه مساعي التغيير، وكانت رسالته واضحة للأطراف الراغبة في التغيير أو الخائفة منه، سواء داخل مؤسسات الدولة أو القوى السياسية المعارضة، أو القوى الإقليمية والدولية. وقد سارع السيسي شخصيا للتشكيك في تلك الرسالة، والادعاء أنها تمهيد للعودة مجددا بطريق مختلف
ربما
لا يعرف الكثيرون حتى داخل الجماعة أدوارا كثيرة خفية لإبراهيم منير، لم يكن حريصا
على إظهارها بحكم ثقافته الدينية التي تخشى الرياء، وبحكم طبيعته التنظيمية كأمين
عام للتنظيم الدولي للجماعة لعقود طويلة، ومن ذلك تأسيسه لجمعيات ومراكز إسلامية
في بريطانيا والغرب، كما كان الجندي المجهول في
ترتيبات وفد الوساطة الإسلامي العالمي بين العراق وإيران خلال حرب الخليج
الأولى، كما أنه شارك المرشد الأسبق مصطفى مشهور في تأسيس رابطة الإخوان المصريين
في الخارج، وتولى الإشراف عليها بعد ذلك، وهو الذي تصدى كثيرا لحملات غربية ضد
الجماعة.
كانت
معركة تصنيف الإخوان كجماعة إرهابية بما يستتبع ذلك من غلق للجمعيات والمراكز
التابعة لها أو القريبة منها في كل مكان، ومصادرة ممتلكاتها، وملاحقة أعضائها عبر
المطارات، أحد أكبر المعارك التي أنفقت عليها السعودية المليارات منذ العام 2014،
وتصدى لها إبراهيم منير بقوة، دحض كل الاتهامات والشبهات، ونجح أخيرا في إنقاذ
جماعته من ذلك التصنيف بصدور التقرير البريطاني الرسمي في العام 2016 خاليا من هذا
التصنيف، وهو ما يحسب له رحمه الله.
بعد
اعتقال الدكتور محمود عزت، نائب المرشد العام والقائم بأعماله، في آب/ أغسطس 2020،
أصبح إبراهيم منير هو القائم بأعمال
مرشد الإخوان، وعقب توليه الموقع بادر بإحداث
تغيرات كبرى في الجماعة تخرجها من حالة الركود الطويلة التي مرت بها، فشكل هيئة
إدارية جديدة للجماعة من داخل مصر وخارجها، وأعاد هيكلة مجلس الشورى العام، وهيكلة
الأقسام المركزية الأساسية في الجماعة، مثل القسم السياسي، والإعلامي، والشبابي
(الذي استحدث) كما استحدث لجنة للتطوير الإداري، وكلف مؤسسات الجماعة بصياغة رؤية
عامة وأخرى سياسية مرحلية لتعمل الجماعة وفقا لها. وانطلاقا من تلك الرؤية
السياسية أطلق تصريحه الخاص باعتزال الصراع على السلطة مؤقتا، كرسالة طمأنة لفئات
عديدة كما ذكرنا، كما أقرت الجماعة في عهده القصير مشروعا لمراجعة وتقييم سياساتها
وممارساتها منذ ثورة يناير وحتى الآن، لا يزال في مراحله التمهيدية.
كانت الأزمة واضحة بين هؤلاء الشباب وقيادة الجماعة التي حمّلوها المسئولية عن الفترة الماضية، ولكن الأستاذ إبراهيم منير وعقب توليه المسئولية بشكل رسمي كقائم بعمل المرشد العام؛ نجح في استعادة جزء كبير من هذه الطاقة الشبابية للجماعة
تعرض
إبراهيم منير في مسيرته نحو التغيير والتطوير لانتقادات من بعض رفاقه داخل
الجماعة، ولكنه أصر على استكمال مسيرته رغم تقدم سنه (85 عاما)، وظل يتابع العمل
ويشارك بنفسه في العديد من الأنشطة واللقاءات حتى آخر نفس في حياته، فقد كان
مشاركا في اجتماع إداري مساء الخميس، أي قبل وفاته بساعات قليلة، وقبلها بيوم (أي
الأربعاء) كان مشاركا في اجتماع كبير في لندن بخصوص قضية المعتقلين.
وبمناسبة
قضية المعتقلين، فإن الرجل ومن خلال معايشة مباشرة معه كان يضع هذا الملف على رأس
اهتماماته، ويشعر بمسئولية جسيمة تجاه جميع المعتقلين وليس فقط أبناء جماعته. وقد
استمعت منه شخصيا أنه مستعد لقبول أي تسوية تكون نتيجتها خروج المعتقلين، وقد وجه
بتشكيل لجنة خاصة للمعتقلين ضمن أقسام الجماعة المركزية.
إحدى
المشكلات الرئيسية التي واجهتها جماعة الإخوان خلال السنوات القليلة الماضية هي
حالة الإحباط التي انتابت الشباب عموما، وفي القلب منهم شباب الإخوان الذين انفض
الكثيرون منهم عن التنظيم، وركزوا في دراستهم أو وظائفهم وأعمالهم. كانت الأزمة
واضحة بين هؤلاء الشباب وقيادة الجماعة التي حمّلوها المسئولية عن الفترة الماضية،
ولكن الأستاذ إبراهيم منير وعقب توليه المسئولية بشكل رسمي كقائم بعمل المرشد
العام؛ نجح في استعادة جزء كبير من هذه الطاقة الشبابية للجماعة.
أعاد الرجل الحيوية للجماعة، وضخ فيها دماء جديدة عبر سياساته وتغييراته الهيكلية، وتقديمه لأهل الخبرة وللشباب، وقد فتح طريقا واسعا للتغيير
ففي
الانتخابات الداخلية التي شهدتها الجماعة قبل أكثر من عام، أصر رحمه الله على
إفساح المجال للشباب، وعدم المساس بـ"الكوتة" المخصصة لهم والتي
تجاوزوها عمليا في نتائج الانتخابات التي أتت بغالبية شبابية في مواقع الإدارات
المختلفة، كما حرص رحمه الله على مشاركة الشباب في لقاءاتهم وفعالياتهم الحضورية
والافتراضية، والاستماع إليهم برحابة صدر، والحوار معهم كصديق وليس كمرشد عام فقط،
ما فتح له قلوب هؤلاء الشباب الذين غابوا كثيرا عن أنشطة الجماعة قبل توليه مهامه.
إلى جانب
مناقبه الإيمانية والأخلاقية التي أشاد بها الكثيرون في تعليقاتهم عقب وفاته، فقد
تمتع منير رحمه الله بحس سياسي عال، كان هو الأكثر فهما بين قيادات الجماعة
لتعقيدات المشهد السياسي المحلي والإقليمي والدولي، وهذا مكنه من إنقاذ الجماعة من
التصنيف الإرهابي كما ذكرنا، كما أنه حاول مرات كثيرة تقديم أفكار جديدة لحلحلة
الأزمة لكنه لم يجد ظهيرا قويا لتلك الأفكار، ولكنه لم يتأخر في طرح وتنفيذ ما رآه
صوابا لصالح وطنه وجماعته عقب توليه المسئولية.
لقد
أعاد الرجل الحيوية للجماعة، وضخ فيها دماء جديدة عبر سياساته وتغييراته الهيكلية،
وتقديمه لأهل الخبرة وللشباب، وقد فتح طريقا واسعا للتغيير والإصلاح، وأصبح من
واجب الجميع الآن استكمال ما بدأه الراحل الكبير حتى تستعيد الجماعة مكانتها،
وتستعيد فعاليتها في العمل الدعوي والاجتماعي والسياسي.
twitter.com/kotbelaraby