تتفاوت الآراء عن توجهات قطاع من الشعب
الفلسطيني في الداخل لمقاطعة
انتخابات الكنيست القادمة، مقابل المشاركة
الكاملة.
يوجد شبه كبير بين وضع الجمهوريين
في إيرلندا الشمالية ووضع الفلسطينيين في
إسرائيل، سواءً من حيث الانتماءات السياسية
أو الدينية. كلا الشعبين يعتبران السلطة الرسمية قوة احتلال غاشم تحكم بقوة الأجهزة
الأمنية والعسكر وتعامل السكان، أي الشعب الأصلي، على أساس أنهم أعداء. كلا الشعبين يرى، ولو حتى في الفضاء الخاص، أنه ليس هناك فرق كبير في سبب الوجود والممارسة والأهداف بين المؤسسة والسلطة الرسمية البريطانية
في إيرلندا الشمالية والإسرائيلية في فلسطين. كلتاهما تسعى لتثبيت حكمها وتسلطها على
شعب محتل بهدف إخضاعه وتذويبه في هوية المحتل.
لا شك أن الحالة الفلسطينية أسوأ
بكثير من الحالة الإيرلندية حيث يواجه الفلسطينيون، الشعب الأصلي، نظاما إحلاليا عنصريا
كولونياليا مبنيا على مبادئ
الأبارتايد السافر.
ومع أن الشعبين تعاملا كل بطريقته
مع السلطة الرسمية، إلا أنهما استفادا في الحالتين من مساحة قانونية متوفرة للمشاركة
في الانتخابات المحلية والبرلمانية، مع تباين في مدى وكيفية استغلال تلك المساحة الديمقراطية
عند الشعبين. فبينما كان هناك انخراط شبه كامل في المؤسسة الإسرائيلية من الممثلين
الفلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي تحت وهم الممارسة الديمقراطية والحصانة البرلمانية
لتحسين وتحصيل حقوق مواطنيهم، لم ينخدع الجمهوريون الإيرلنديون، وظل "الشين فين"، الحزب الجمهوري الإيرلندي المعروف بمقاومته للحكم
البريطاني في إيرلندا الشمالية، يطالب بانضمام الإقليم إلى جمهورية إيرلندا. ومع أن "الشين
فين" يمارس نشاطه السياسي في إيرلندا الشمالية منذ تأسيسه عام 1905، إلا أنه يدفع بمرشحين في انتخابات البرلمان البريطاني بصفتهم
الفردية وليس كممثلين عن حزب أو إطار سياسي يرشح ممثلين عنه في الانتخابات البرلمانية.
يوجد شبه كبير بين وضع الجمهوريين في إيرلندا الشمالية ووضع الفلسطينيين في إسرائيل، سواءً من حيث الانتماءات السياسية أو الدينية. كلا الشعبين يعتبران السلطة الرسمية قوة احتلال غاشم تحكم بقوة الأجهزة الأمنية والعسكر وتعامل السكان، أي الشعب الأصلي، على أساس أنهم أعداء
أضف إلى ذلك، أن الفائزين من مرشحيه للبرلمان، لا يشاركون في جلسات ونقاشات
البرلمان في لندن. قد يبدو الأمر للبعض غريبا أو القرار عبثيا، فما الفائدة من دخول
الانتخابات البرلمانية إذا كانوا لا يريدون أن يجلسوا في البرلمان ويمارسوا دورهم في
تمثيل مصالح الذين انتخبوهم؟ يسأل سائل! الجواب يوفره عضو البرلمان البريطاني عن الشين
فين بول ماسكي في رأي نشر في صحيفة الغارديان البريطانية في 28 آذار/ مارس 2018. مهم جدا قراءة المقالة
لأنها توفر وجهة نظر حرية بالتفكير فيها. ولا تسمح هذه المقالة بتفصيل كيفية تحقيق
ذلك عمليا، ويمكن دراستها في الواقع هناك ومع مهندسيها.
عمل الإيرلنديون بناء على رؤية
وقناعة واضحة وثابتة عندهم بأن السلطة الرسمية لا يمكن أن تعاملهم كمواطنين متساوين
دون إجبارها على ذلك. مشاركتهم في الانتخابات كانت نابعة من قناعتهم بأن شعبهم لا يُترك
بدون تمثيل ولا يدّعي غيرهم تمثيله، فبانتخابهم عن طريق انتخابات رسمية تنظمها السلطة
ثبتوا حقهم في التمثيل الذي لا تستطيع السلطة الرسمية تجاهله أو الطعن فيه، وأجبروا
السلطة على الاعتراف بهم والتعامل معهم على أنهم الممثلون الحقيقيون والشرعيون لشعبهم.
بعد تحقيق ذلك الهدف، يجعلون من هموم الناس ومطالبهم مجالاً للاشتباك مع السلطات الرسمية
من بعيد، لا من العاصمة (لندن)، حيث دواليب ومكاتب سلطة بيروقراطية تقدم الوعود بحل
مشكلة ما فردية، دون إجراء أي تغيير جذري وحقيقي في نمط التفكير والتعامل من قبل المؤسسة
الحاكمة. لقد قامت قيادة "الشين فين" بأداء مهمة نضالية حقيقية لشعبها، مما
ساهم في ترسيخ قواعد قيادتها للشعب، وبدورها بنت على تلك القواعد تراكمياً حتى أجبرت
الحكومة البريطانية على توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة مع الحكومة الإيرلندية، الممثل
الرسمي الحاضن للشعب الإيرلندي، في 10 نيسان/ أبريل 1998.
نتج عن الاتفاقية نقل السلطة
من الحكومة المركزية إلى الإقليم، وتنصيب حكومة ذاتية من ممثلي سكان الإقليم المنتخبين
مباشرة بدون تدخل الحكومة المركزية. ومن أهم قوائم الاتفاقية تثبيت مبدأ "التساوي
في الاحترام" (Parity of Esteem)، الذي يعتبر من أهم مبادئ
السياسة العامة التي تبنى عليها العلاقات بين الشعوب والجماعات في حيّز جغرافي مشترك
أو كيان سياسي واحد.
بعد كل هذه السنين من التجارب الفاشلة للوصول إلى تسوية ما مع الاحتلال، لم يبرز مثل ذلك الوعي الإيرلندي عند الفلسطينيين في إسرائيل، ولا يقع توافق ولو بسيط عند النخبة التي رأت في نفسها مؤهلة لتمثيل شعبها أمام المؤسسة الإسرائيلية، مع أنهم جميعاً في نفس القارب، ونفس الموقع بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، وهذا يكفي لتشكيل قاعدة أساس في التعامل مع السلطة
في الحالة الفلسطينية، حتى عندما وُقعت اتفاقيات أوسلو وأعلنت القيادة
الفلسطينية تنازلها عن 87 في المائة من فلسطين التاريخية وشعبها، حيث أخبرهم ياسر عرفات
"انتوا دبروا حالكم" وأصبحوا "كالأيتام على قصعة اللئام"، وبعد
كل هذه السنين من التجارب الفاشلة للوصول إلى تسوية ما مع الاحتلال، لم يبرز مثل ذلك
الوعي الإيرلندي عند الفلسطينيين في إسرائيل، ولا يقع توافق ولو بسيط عند النخبة التي
رأت في نفسها مؤهلة لتمثيل شعبها أمام المؤسسة الإسرائيلية، مع أنهم جميعاً في نفس القارب، ونفس الموقع بالنسبة
للمؤسسة الإسرائيلية، وهذا يكفي لتشكيل قاعدة أساس في التعامل مع السلطة.
في البدايات
كان التمثيل الفلسطيني بعدة أعضاء من خلال أو بدعم من أحزاب صهيونية قبل القيام بتنظيم
قوائم عربية مستقلة. تراوحت مطالبهم بين الاعتراف بالدولة والاندماج الكامل في المؤسسات
الإسرائيلية والمغالبة على الحقوق من داخلها، إلى البرنامج السياسي للتجمع الذي كان أول من طرح مطالب جريئة على
مبدأ "التساوي في الاحترام"، مثل "الحكم الذاتي الثقافي" و"دولة
المواطنة" الكاملة.
وبالنظر إلى تجربة "الشين فين"، يبدو
أن هناك ضرورة للمشاركة في الانتخابات والانتظام في مؤسسات تمثل الشعب أمام السلطة.
حالة التشرذم السياسي للأحزاب الصهيونية ودورات الانتخابات المتقاربة، توفر فرصة للأحزاب
العربية لاستغلال ثقلها لتحقيق مطالبها وتلبية تطلعات جمهورها. وهكذا الدائرة، كلما
تحسنت ظروف الشعب، زادت ثقته بالانتخابات وممثليه مما يزيد نسبة المشاركة، مما يؤدي
إلى زيادة الأعضاء المنتخبين والذي بدوره يؤدي إلى تقوية موقفهم أمام السلطة وتحصيل
المزيد من الحقوق.
القرار بالمشاركة في الكنيست أو عدمه ونجاعته
يعود للأحزاب نفسها ومقياسه برنامجها الانتخابي. من المهم جدا أن تكون الأحزاب على
مستوى من الوعي والمسؤولية، بحيث تبقى مخلصة لبرنامجها الذي انتخبها الناس على أساسه.
مخطئ من يظن أن الجماهير تنسى، فحين ينتخب الناس
يوقعون على ميثاق مع ممثليهم الذين انتخبوهم، أنهم سينفذون وعودهم بعد انتخابهم. كثير
من الأحزاب العربية لا تمتلك سمعة جيدة في هذا الجانب، وتنسى وعودها وتنكث بها بعد
الانتخابات. أقول الانتخابات فقط لأنه أمر محسوم أن الأحزاب العربية لا تصل إلى السلطة،
وحين حصلت على ما يمكن وصفه بثقل برلماني لتؤثر في تشكيل الحكومة دخلت في دوامة الصفقات
بين الكتل البرلمانية الصهيونية بدون مرجعية ولا انتباه إلى أن ذلك السلوك ضار جدا
بسمعة تلك الأحزاب وثقة منتخبيها بها، وستعاقب عليها في الجولة القادمة. زد على ذلك
أن ذلك الثقل البرلماني لم يؤت أُكُله بتحصيل حقوق المنتخِب الفلسطيني أو الدفاع عنها
بنجاح.
لم يكن في ذهن الناخب الفلسطيني أن ممثليه الذين
انتخبوا، ولأول مرة، في قائمة مشتركة وعلى برنامج وطني بامتياز سوف يوصوا على غانتس،
الذي يعتبره الفلسطينيون مجرم حرب، لتشكيل الحكومة. يحسن التجمع وغيره من القوائم في
أن ينأوا بأنفسهم عن تلك الخطيئة ويغتسلوا ويعتبروا منها، يكفيهم أن توصيتهم لم يؤخذ
بها ولم يحصلوا منها على ما كانوا يأملون، وبقي عليهم أن يرمموا ما بقي لهم من قيمة
عند شعبهم.
يجب الابتعاد عن الخوض أو الانغماس في لعبة المؤسسة الصهيونية بجر الأحزاب العربية إلى مسرحية الترشيحات لتشكيل الحكومة
لا يمكن تجاهل تجاربهم وتجارب غيرهم من الشعوب
التي وجدت نفسها في أوضاع مشابهة.
ويجب الابتعاد عن الخوض أو الانغماس في لعبة
المؤسسة الصهيونية بجر الأحزاب العربية إلى مسرحية الترشيحات لتشكيل الحكومة بدون مقابل،
وفقط لإرضاء الذات والانتفاخ أمام الجمهور والكاميرات بأن الرئيس يدعوهم للتشاور معهم
ثم يتجاهلهم. هو يحصّل مآربه بتحسين وترسيخ صورة دولته العنصرية، وهم يعودون بخُفيّ
حُنين بعد أن خذلوا جمهورهم.
التاريخ البرلماني لإسرائيل كان وما زال متشرذما،
ونادرا ما تحصل قائمة واحدة على عدد مقاعد يكفي لتشكيل حكومة مستقرة، ودائما ما تكون
هناك صفقات تجر الحكومة والدولة إلى اليمين المتطرف الذي ازداد قوة بسرعة ملحوظة في
السنوات الأخيرة.
بعد سن قانون القومية اليهودية في عام 2018،
لم يبق عند أي حكيم مجال للشك في أن أي قائمة عربية مهما كان ثقلها لن تغير من برنامج
أو مسيرة المؤسسة الصهيونية للقطيعة مع الفلسطينيين في الداخل والخارج. لقد وصلت المؤسسة
الصهيونية إلى درجة من "الخوتصباه" (الوقاحة أو الصلف) لأن تعتبر الفلسطينيين من "مواطنيها" أعداء وممثليهم في الكنيست جزءا من ديكور
المؤسسة فقط لا غير، و"تعايرهم" و"تتجمل" عليهم الانتفاع منها، وتستخدمهم في ترويج "الدولة الديمقراطية" التي تدعيها
أمام العالم، بدون أي التزام حقيقي أو ثمن حقيقي تقدمه لوجودهم فيها سوى الفتات أو
سقط المائدة.
الرد الحقيقي من قبل الشعب لا يكون بالمقاطعة لعدم الجدوى واليأس، ولكن هو المساهمة الفاعلة في الانتخابات وتثبيت حقه الطبيعي في انتخاب من يمثله، وانتخاب أكثر عدد ممكن من ممثليه الذين يحملون همومه ويدافعون عن حقوقه أمام مؤسسات الدولة العنصرية وأمام المجتمع الدولي
الرد الحقيقي من قبل الشعب لا يكون بالمقاطعة
لعدم الجدوى واليأس، ولكن هو المساهمة الفاعلة في الانتخابات وتثبيت حقه الطبيعي في
انتخاب من يمثله، وانتخاب أكثر عدد ممكن من ممثليه الذين يحملون همومه ويدافعون عن
حقوقه أمام مؤسسات الدولة العنصرية وأمام المجتمع الدولي.
المواجهة مع نظام الأبارتايد مسيرة شاقة وطويلة
نفس، دائما تبدأ بالوعي الفردي والجمعي بالذات، وعناصر القوة المتوفرة وأولها صوت المواطن
والاستعداد للتضحية.
عودا على بدء، كما نجح السود في أمريكا وجنوب
أفريقيا بالقضاء على العبودية وإلغاء قوانين التمييز العنصري، نجح الإيرلنديون بصبرهم
وتضحياتهم وبثباتهم على موقفهم في الوصول إلى أهدافهم بتثبيت وحدة وطنهم وتحصيل وتحصين
حقوقهم قانونيا، وباتفاق ذي قيمة دولية. وأذكر أنه حين تفاوضت بريطانيا مع أوروبا على
اتفاقية الخروج من الإتحاد الأوروبي، لم تستطع وضع حدود جغرافية بين جنوب وشمال إيرلندا
بسبب اتفاقية الجمعة العظيمة.
الشعب الفلسطيني يبقى واحدا ويجب أن يكون موحدا
في مواجهة المشروع الصهيوني، وكل مكان يوجد فيه له وسائله والانتخابات هي إحدى تلك
الوسائل. الشعب الفلسطيني في الداخل لديه الفرصة الآن ويجب أخذها بقوة.