هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا لمراسلتها للأمن القومي والاستخبارات، إيمي ماكينون، والباحثة المتدربة لديها، أنوشا راثي، قالتا فيه إن الجنيه الإسترليني انخفض إلى أدنى مستوى تاريخي مقابل الدولار الأمريكي يوم الاثنين.
وتم الإعلان عن خطط في أواخر الأسبوع الماضي، لخفض ضريبي بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (حوالي 48.4 مليار دولار) والاقتراض الجديد الضخم لتغطية ذلك، ما تسبب في حدوث صدمة في الأسواق وتسبب في أزمة ثقة بقدرة الحكومة البريطانية الجديدة على إنقاذ اقتصاد البلاد المتعثر من حافة الركود.
وبحلول يوم الأربعاء، نمت الأزمة بشكل حاد لدرجة أن بنك إنجلترا، قال إنه سيعكس خطته السابقة لبيع السندات، وسيبدأ بدلا من ذلك في شراء السندات لدعم السوق المنهارة، محذرا من أن استمرار التقلبات يشكل "خطرا ماديا على الاستقرار المالي في المملكة المتحدة.."، وبعد أن استقر إلى حد ما يوم الثلاثاء، انخفض الجنيه مرة أخرى بعد الأخبار إلى 1.05 دولار.
اقرأ أيضا: لماذا ينخفض الجنيه الإسترليني.. وماذا يعني ذلك لبقية العالم؟
وتأتي الأزمة الاقتصادية في بريطانيا هذا الأسبوع، بعد أن أعلن وزير المالية الجديد كواسي كوارتنغ يوم الجمعة عن أكبر تخفيضات ضريبية منذ أكثر من 50 عاما، ومن المقرر تمويلها عن طريق زيادة الاقتراض الحكومي.
ودافعت رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس عن التخفيضات الضريبية لبعض أصحاب الدخل المرتفع في البلاد، قائلة إن ذلك سيؤدي في النهاية إلى دفع عجلة النمو الاقتصادي. لكن المستثمرين المتشككين سارعوا إلى التخلص من العملة البريطانية والديون الحكومية، ما دفع الجنيه لفترة وجيزة إلى 1.03 دولار يوم الاثنين، في حين تراجعت جاذبية السندات البريطانية تماما، وارتفعت إلى أعلى تكلفة اقتراض منذ عقود، ما فرض ضغوطا على صناديق التقاعد وغيرها من كبار المستثمرين في الديون الحكومية، وهو ما هدد بانهيار شامل.
ويأتي تراجع الجنيه -الذي سيتبعه ارتفاع متوقع على نطاق واسع في أسعار الفائدة- في الوقت الذي تكافح فيه البلاد التداعيات الاقتصادية الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووباء كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا.
وانتقد صندوق النقد الدولي (IMF) بشدة التخفيضات الضريبية المخطط لها، والتي انتقدها الاقتصاديون على نطاق واسع، وحثوا الحكومة على "إعادة تقييم" الإجراءات، محذرين من أنها قد تؤدي إلى زيادة التضخم وعدم المساواة. وإنها الأحدث في سلسلة من الانتكاسات التي يتعرض لها الاقتصاد البريطاني والتي قوضت تدريجيا مكانة البلاد كقوة اقتصادية منذ أن صوتت البلاد على مغادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2016.
وقالت المجلة، إنه نظرا لأن الأزمة الاقتصادية تهدد بالتحول إلى أزمة سياسية، فإن هذا ما يمكن أن تعنيه هذه الانتكاسة الأخيرة لبريطانيا ومكانتها في التمويل العالمي:
من نواح عديدة، لا تختلف الرياح الاقتصادية المعاكسة الأوسع نطاقا في بريطانيا عن تلك التي نشعر بها حاليا في الولايات المتحدة وأماكن أخرى في أوروبا، بسبب الآثار المستمرة للوباء والحرب في أوكرانيا: ارتفاع التضخم، وتزايد تكاليف الطاقة، وسوق العمل الضيق. لكن المملكة المتحدة لديها مقتل إضافي - سبب تسببت فيه بنفسها.
وقال ديفيد هينغ، مدير مشروع السياسة التجارية للمملكة المتحدة في المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي: "كان اقتصاد المملكة المتحدة ضعيفا أصلا بسبب حالة عدم اليقين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".
توقف الاستثمار الأجنبي بعد التصويت على المغادرة عام 2016، بينما تراجعت التجارة مع الاتحاد الأوروبي -الشريك التجاري الأكبر للبلاد- بعد خروج بريطانيا رسميا من الاتحاد في بداية عام 2020.
وتحولت بريطانيا من عضو في أكبر كتلة تجارية في العالم إلى دولة خارجية. في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، توقع مكتب مسؤولية الميزانية (OBR)، وهو هيئة عامة تقدم تحليلا مستقلا للمالية العامة، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيقلص اقتصاد المملكة المتحدة على المدى الطويل بنسبة 4% - ما سيؤدي إلى خسائر أكبر من الوباء.
اقرأ أيضا: رفع سقف أسعار الطاقة في بريطانيا بنسبة 80 في المئة
نظرا لأن الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير الماضي أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، كان من المتوقع أن تتعرض الأسر في المملكة المتحدة للضغط أكثر من نظيراتها في أوروبا الغربية بسبب ضعف العزل الحراري والاعتماد الكبير على الغاز لتدفئة المنازل، وفقا لتحليل صندوق النقد الدولي.
ردا على ذلك، أعلنت حكومة المملكة المتحدة هذا الشهر أنها ستتدخل وتدعم فواتير الطاقة للأسر والشركات في ما قد يرقى إلى أكبر تدخل حكومي في الاقتصاد منذ عقود.
وقدر المعهد المستقل للدراسات المالية، أن هذه الخطوة ستتكلف على الأرجح 100 مليار جنيه إسترليني (حوالي 108 مليارات دولار) على مدار العام المقبل. (للمقارنة، كلف برنامج حكومي لمواصلة دفع رواتب العمال الذين تمت إجازتهم أثناء الوباء ما يقرب من 70 مليار جنيه إسترليني على مدار 18 شهرا).
تلقى سقف أسعار الطاقة دعما واسعا عبر الطيف السياسي وبين الجمهور البريطاني.
وقال جوناثان بورتس، أستاذ الاقتصاد في كينغز كوليدج لندن الذي شغل منصب كبير الاقتصاديين في مكتب مجلس الوزراء البريطاني من عام 2008 إلى عام 2011: "كانت أي حكومة من أي لون سياسي ستفعل ذلك. ربما ليس من الجنون القيام بذلك. سيساعد في دعم الأسر خلال فصل الشتاء ويمنع الناس من أن يكونوا أسوأ حالا مما قد يكونون عليه أصلا".
وكان إعلان يوم الجمعة عن تخفيضات ضريبية واسعة النطاق، في خضم برنامج إنفاق حكومي طموح بالفعل، هو الذي هز ثقة الأسواق في الحكومة الجديدة وأدى إلى انخفاض الجنيه يوم الاثنين. لقد خسر الجنيه الإسترليني أكثر من 20% مقابل الدولار حتى الآن هذا العام - وهناك المزيد من الانخفاض، كما يقول بعض الاقتصاديين.
وقال تشارلز بين، أستاذ الاقتصاد بجامعة لندن للاقتصاد: "هذا الوضع المتمثل في عملة متراجعة والفوائد المتزايدة على السندات هو بالضبط ما يمكن أن تراه في أزمات الديون السيادية في الأسواق الناشئة وهو من أعراض فقدان المستثمرين للثقة في البلد".
وعندما خفض الرئيس الأمريكي رونالد ريغان الضرائب وسط ارتفاع التضخم في أوائل الثمانينيات، ارتفع الدولار مستفيدا من موقعه كعملة احتياطية عالمية واقتصاد عالمي قوي. في حين أن تروس ربما تكون قد استلهمت من ريغان، فقد حدث العكس في المملكة المتحدة، حيث بدأ المستثمرون بالتشكيك في كفاءة حكومتها. وخلص الاقتصاديون والمعلقون السياسيون في جميع أنحاء العالم إلى أن الحكومة لديها خريطة طريق، لكنها لا تعرف كيف تقود.
وقال بورتس: "هذه حكومة تحركها أيديولوجية، إنها تريد خفض الضرائب ولكنها غير متماسكة ولا تعرف أساسا ما الذي تفعله". وصف بنك سيتي هذه الخطوة بأنها "مقامرة ضخمة وغير ممولة لاقتصاد المملكة المتحدة".
وأدى ذلك إلى أن تأخذ الأسواق في الحسبان ما يسميه بعض الاقتصاديين "علاوة المخاطرة الحمقاء" على استثماراتهم - توقع عوائد أعلى للاستعداد لتحمل ديون حكومة متخبطة.
بينما كانت تقوم بحملتها من أجل زعامة حزب المحافظين، وعدت تروس بتمزيق "أرثوذكسية الخزانة". وكانت وعودها بتخفيضات ضريبية غير ممولة قد بدأت بالفعل في إثارة الرعب في أسواق العملات والسندات قبل انهيار العملة يوم الاثنين. وكانت إحدى خطواتها الأولى هي عزل توم سكولار، أكبر موظف حكومي في وزارة الخزانة البريطانية، حتى مع استمرار الأسئلة حول التجربة الاقتصادية لمن حولها. وقال هينغ: "مجلس الوزراء ليس من ذوي الخبرة".
لم تكن التخفيضات الضريبية المعلنة يوم الجمعة مصحوبة بمراجعة من مكتب مسؤولية الميزانية، ما زاد المخاوف بشأن تأثير السياسات. وقال بين، الذي عمل سابقا في لجنة مسؤولية الموازنة في مكتب شؤون الميزانية: "قررت الحكومة أنها ستقدم هذه الإجراءات المالية دون أي تقييم لحالة المالية العامة، لذا فقد أصبح لدينا هنا مجموعة من الأشياء التي تقلل من مستوى الإطار المؤسسي حول صنع السياسات".
ووعد كوارتنغ منذ ذلك الحين بأن مراجعة OBR للقرار ستكون متاحة بحلول أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر - ولكن الوقت يعني المال، بالمعنى الحرفي للكلمة، عندما يتعلق الأمر بالأسواق المالية، ويمكن أن يحدث الكثير قبل مراجعة OBR التالية.
على المدى القريب، سيؤدي انخفاض قيمة الجنيه إلى زيادة تكلفة الواردات، ما يؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة والتضخم في دولة تستورد حوالي نصف طعامها ووقودها بالإضافة إلى السلع الأساسية الأخرى.
ويتوقع الاقتصاديون أن يعلن بنك إنجلترا عن رفع أسعار الفائدة ردا على ذلك، ما يضعه في موقف غير معتاد بمحاولة الضغط على المكابح بينما تحاول الحكومة تسريع المحرك.
وبينما قارن الاقتصاديون المملكة المتحدة بسوق ناشئة -أو على حد تعبير وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سمرز، سوق غارقة- فإن مكانة بريطانيا كواحدة من الاقتصادات الرئيسية في العالم تساعد في توفير بعض العزل الذي تفتقر إليه المنازل البريطانية.
المملكة المتحدة لديها ثاني أقل نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي في مجموعة الدول السبع، وعلى عكس الأسواق الناشئة، فإن هذا الدين مقوم بالعملة الوطنية. ويعتبر التخلف عن سداد الديون أمرا مستبعدا للغاية، حتى لو كانت السندات البريطانية قد جعلت الديون اليونانية والإيطالية هذا الأسبوع تبدو مطلية بالذهب.
ومع ذلك، فإن الأسواق تشهد ترددا. وقال ديفيد بلانشفلاور، أستاذ الاقتصاد في كلية دارتموث: "هذا تصويت ضخم بحجب الثقة من الأسواق. وسياسيا، هذه كارثة".
"بعد 10 سنوات من التقشف، تلتها جائحة وحرب في أوكرانيا، فإن الاقتصاد البريطاني، الذي يعاني من العديد من القضايا النظامية، في حالة ركود، أو يموت موت المثخن بالجراح"، قال بلانشفلاور.
وختم بالقول: "الجراح تأتي بشكل أكثف وأسرع. وبعد أن كانت الجراح تتوالى بالأيام أصبحت تتوالى بالدقائق".