تعتمد استراتيجية دولة
الاحتلال منذ احتلال مدينة
القدس عام 1967 على تهويد المدينة، من خلال إضفاء الطابع اليهودي كبديل إلغائي لطابع المدينة العربي الإسلامي الذي عرفته لأكثر من أربعة عشر قرناً متواصلة، فيما يستمر تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر تكتيك يمكن أن نطلق عليه تكتيك "طبخ الضفدع"(١)، حيث يتم تنفيذ هذا التكتيك على أكثر من صعيد، ومن خلال المسارات التالية:
مسار استهداف المسجد الأقصى
بدأت محاولات تقسيم المسجد الأقصى بقرار محكمة الاحتلال المركزية عام 1976 بأن لليهود الحق في الصلاة داخل المسجد، ثم سمحت شرطة الاحتلال في عام 1989 بإقامة صلوات للمتدينين اليهود على أبوابه، وفي 8 أيار/ مايو 2001 شكل شارون لجنة وزارية لإعداد آلية تسمح بوصول اليهود للمسجد الأقصى المبارك.
وظهرت في عام 2014 فكرة التقسيم بشكل علني، وذلك عندما قدّم نواب متطرفون للكنيست مشروع قانون للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد، ويتمثل باقتسام ساعات اليوم وأيام الأسبوع والسنة بين اليهود والمسلمين في دخول المسجد، ومن خلال ذلك يُفرض على المسلمين مغادرة المسجد في أوقات غير صلاتهم. ولتنفيذ ذلك فقد سارت الحكومات الصهيونية المتعاقبة عبر اتجاهين اثنين:
الأول: قائم على تعزيز الوجود الصهيوني داخل باحات المسجد الأقصى المبارك، وقد انعكس ذلك بشكل جلي في أعداد المقتحمين للمسجد. فبينما شهد العقد الأول من الألفية الثانية اقتحامات يومية شارك فيها العشرات من المستوطنين، فقد شهد العامان الماضيان تعزيزاً عددياً (ليصل عدد المقتحمين اليومي للمئات) ونوعياً (ليشمل قيادات من المستوطنين ونواب كنيست ووزراء، وغيرهم..).
الثاني: قائم على استخدام الصعقات المتتالية، يتم من خلالها اختبار درجة تحمُّل المقدسيين والشعب
الفلسطيني، على قاعدة الانتقال من دائرة غير المُتَحَمّل إلى دائرة المُتحمَل وما يطلق عليه شعبنا مصطلح "الصمود".
من الملاحظ أنه ومنذ بداية العام 2020 (وكردة فعل على نجاح المقدسيين في هبتي باب الأسباط وباب الرحمة) فقد أصبحت اقتحامات المستوطنين مصحوبة بمجموعة من الانتهاكات الصارخة بحق قدسية المكان، وتتمثل بتنفيذ الصلوات السرية والتي تحولت بعد ذلك لصلواتٍ جهرية مصحوبة بتلاوة التراتيل التوراتية وأداء "السجود الملحمي"، وغيرها من الطقوس العلنية. وفي ذات الاتجاه كانت الدعوات الصهيونية لذبح القرابين داخل ساحات المسجد الأقصى خلال عيد الفصح اليهودي، الذي تصادف مع العشر الأواخر من أيام شهر رمضان المبارك 1443هـ.
وفي 29 أيار/ مايو الماضي اجتمع الاتجاهان السالفان معاً، بعد أن اقتحم المسجد الأقصى نحو 2.687 مستوطنا على الأقل، أدّوا الطقوس التوراتية العلنية الجماعية ورفعوا العلم الصهيوني مراراً، وأنشدوا فيه تراتيلهم وأدعيتهم تحت حراب شرطة الاحتلال، وافتتحوا لأول مرة منذ عام 1967 ما يُسمى "زمان العبادات التوراتية" بشكل علني.
مسار الاستيطان
خلال العقدين الأخيرين نجحت حكومة الاحتلال بمحو ذاكرة مسار الخط الأخضر (والذي يقسم مدينة القدس إلى شرقية وغربية)، فيما نجحت كذلك في عزل المدينة عن أخواتها في الضفة الغربية عبر بناء مجموعة من التجمعات الاستيطانية التي تحيط بمدينة القدس من كافة الجهات. وهي مستمرة في تضييق الخناق على البلدة القديمة التي تحتضن المسجد الأقصى المبارك، عبر الضغط على الحامية الجنوبية للبلدة القديمة (منطقة سلوان) والحامية الشمالية (منطقة الشيخ جراح)، وامتدادات تلك الحاميتين من الشمال والجنوب. وفي سبيل ذلك فقد صادقت البلدية منذ مطلع عام 2022 على بناء 3365 وحدة استيطانية شرقي المدينة ضمن خمسة مخططات جديدة، كما أقرت مشروعاً لبناء برج استيطاني على مدخل حي الثوري، يتكون من 30 طابقاً ويستوعب أكثر من 150 وحدة استيطانية.
من جانب آخر، فقد أعلنت بلدية الاحتلال ووزارة النقل والبنية التحتية والمواصلات وشركة تطوير القدس، عن افتتاح النفق الجنوبي الثاني لربط مستوطنات جنوب الضفة بالمدينة المحتلة. ويهدف المشروع إلى مضاعفة قدرة الأنفاق (الطريق 60)، وهذا المشروع الضخم، هو بوابة المدخل الجنوبي الجديدة لمدينة القدس وشريان للمواصلات يربط المدينة بالكتلة الاستيطانية "غوش عتصيون" ومستوطنة "بيتار" وكل المستوطنات المجاورة. كما تعمل بلدية الاحتلال على ربط المستوطنات في مدينة القدس والمحيطة بها بشبكة من القطارات، إضافة إلى توسيع خط القطار الخفيف ليشمل مستوطنات القدس من الجانبين الشرقي والغربي.
مسار الهدم والترحيل
بعد الهبات الشعبية التي شهدتها مدينة القدس وأحياؤها منذ عام 2014، وخاصة بعد قتل وإحراق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، فقد أدركت حكومة الاحتلال بأن سياستها "الناعمة" القائمة على مشروعي أسرلة العقول والإفساد الأخلاقي للشباب المقدسيين قد باءت بالفشل، لذلك فقد نهجت حكومة الاحتلال من خلال أذرعها المختلفة (الشرطة، الجيش، المخابرات، زعران المستوطنين، القضاء، البلدية) سياسة جديدة- قديمة قائمة على القمع الممنهج والمتواصل لكل من يرفع رأسه ضد الاحتلال وإجراءاته القمعية. ومنذ مطلع العام الجاري 2022 فقد زادت وتيرة القمع بشكل ملحوظ ضد الشباب المقدسيين، حيث تم تسجيل أكثر من 2400 حالة اعتقال.
وقد أصبح جلياً للعيان بأن السياسات الجديدة لحكومة الاحتلال تهدف إلى ترحيل السكان، عوضاً عن المراهنة على أسرلتهم وإفسادهم (ولا يعني ذلك أنها قد تخلت نهائياً عن مشروعها في الأسرلة والإفساد الأخلاقي).
على ضوء ذلك يمكن فهم الهدف الكامن من إجراءات الاحتلال في هدم البيوت بحجة عدم الحصول على رخصة (والتي يصل عددها إلى نحو 22 ألف بيت)، وترحيل السكان وطردهم إلى خارج مدينة القدس، لتتحقق الأغلبية الديموغرافية لليهود الصهاينة على شطري المدينة الشرقي والغربي.
ولا يقتصر المشروع الصهيوني على الطرد والترحيل الجماعي للمقدسيين عن مدينة القدس، بل طال أبناء القدس كأفراد حيث وصل عدد المبعدين عن مدينة القدس منذ مطلع العام 2020 قرابة 1447 مبعدا، فيما استحدثت قوات الأمن الصهيونية عقوبة الإبعاد الدائم للنشطاء المقدسيين عن القدس، وقد طالت في الأسبوع الماضي كلا من الناشطين المقدسيين منصور أبو غربية ومراد العباسي.
وعبر خطة ممنهجة وكتوسع لبقعة زيت متزايدة، تستهدف بلدية الاحتلال منطقتي سلوان جنوباً والشيخ جراح شمالاً، للحؤول دون وصول المرابطين إلى البلدة القديمة، وعزل المسجد الأقصى المبارك حتى عن رواده المقدسيين.
خلاصة
- بالعودة إلى تكتيك "طبخ الضفدع"، فهل ما زلنا نقول لأنفسنا إنَّ الماء دافئ، ولا يزال محتملاً ويمكننا تأجيل القفز منه! في الوقت الذي ما زالت فيه حكومة الاحتلال ترفع درجة حرارة النار من تحته؟!
- تراهن حكومة الاحتلال على عامل الوقت، ككفيل لتحويل إجراءاتها في مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك ومع مرور السنين إلى أقل وطأة، فتتحول إلى انتهاكات روتينية لا تثير ردات فعل لدى الشعوب العربية والإسلامية، فضلاً عن انشغال هذه الشعوب بمآسيها اليومية.
- لا بد من العمل على استبدال مفهوم "الصمود" بمعناه السلبي إلى الصمود الإيجابي ذي معنى المبادأة والمبادرة بالفعل، وتدفيع العدو الثمن على كل انتهاك (على غرار الحملة الشعبية التي أطلقها الشبان المقدسيون في العام 2014 والتي كانت بعنوان "لنْ يُقَسّمْ"، والتي ساهمت بشكل غير مباشر نحو تصعيد الأحداث الميدانية، والتي عرقلت مؤقتاً مشاريع دولة الاحتلال تجاه المسجد الأقصى المبارك).
- أخيراً، لا بد من صياغة برنامج مجابهة متواصل، يضمن ردود فعل مؤثرة وحقيقية على كل انتهاك صهيوني يومي ومتواصل.
ــــــــــ
(1) يتم هذا التكتيك عبر وضع ضفدع في ماء على النار، وكلما سخن الماء يعدل الضفدع درجة حرارة جسمه، فتظل المياه عادية ومقبولة إلى أن يصل الماء لدرجة الغليان فيموت الضفدع. وهذا دلالة على أن التغيير السلبي إذا تم بطريقة بطيئة لا يلفت الانتباه ولا يثير في الغالب أي احتجاج أو معارضة أو رد فعل، فيما ينظم الضفدع بوعيه الكامل اختبارا انتحاريا في مقاومة الحرارة، وقدرة على البقاء حيا في نظام يجره إلى الموت.
https://web.archive.org/web/20091022035047/https://jamesfallows.theatlantic.com/archives/2009/07/peace_on_the_boiled_frog_front.php