كتاب عربي 21

احتكار الوطنية.. مفاهيم ملتبسة (7)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من القضايا المهمة في ظلم الكلمات أن يقوم المستبد -بجملة مظالمه- باغتصاب الكلمات واحتكارها وملئها كيفما يريد وفقا لتحكماته، ومن جملة ممارسة سياسات طغيانه. يبدو ذلك واضحا في أخطر المفاهيم التي تتعلق بالوطن والمواطن والدولة ألا وهي "الوطنية"؛ فحينما تتماهى السلطة مع الدولة تجعل من نفسها الحكم على من يستحق وصف الوطنية بين من تخلع عليه كل الصفات الحسنة، وهذا الذي تصفه بكل نقيصة فتجعله في النهاية في مربع الخيانة، هو فاقد للوطنية، ومعدوم الولاء، وخائن للوطن؛ مجموعة من النقائص يرمى بها هذا الشخص فيقوم هؤلاء بإزهاق روحه معنويا، وقتله بالاعتبار الذي يؤكد على ارتكابه الخيانة العظمى في حق الوطن.

هكذا أراد هؤلاء من خلال مكارثية جديدة يصنفون الناس وفق معايير فاسدة، فهذا وطني، وذاك خائن، ضمن حملات هنا وهناك تحاول التشويه والاغتيال المعنوي لكل من اختلف مع السلطة أو عارضها.

وهم في هذا الإطار لا يقومون بهذا انتقاما من شخص أو أفراد بأعينهم، ولكنهم في حقيقة الأمر يهدمون كل الأصول والمعايير التي تتعلق بالانتماء للجماعة الوطنية والحفاظ على لحمتها، والتأكيد على تماسكها، ومن ثم يمكن القول إن استباحة هذا المفهوم الذي يتعلق بالوطنية ليست مجرد استباحة عابرة أو تصنيفات للمكايدة؛ ولكن الأخطر من ذلك أن يمس كل ذلك معنى الوطن والمواطن والوطنية، فيشوهها جميعا مع سبق إصرار وترصّد فيكون ذلك وبالا على شبكة العلاقات الاجتماعية، وعلى حقائق الانتماء والمعايير الأساسية التي تتعلق بالولاء من المواطن للوطن والجماعة الوطنية.
الأخطر من ذلك أن يمس كل ذلك معنى الوطن والمواطن والوطنية، فيشوهها جميعا مع سبق إصرار وترصّد فيكون ذلك وبالا على شبكة العلاقات الاجتماعية، وعلى حقائق الانتماء والمعايير الأساسية التي تتعلق بالولاء من المواطن للوطن والجماعة الوطنية

وهو إذ ينتهك هذا المفهوم يمارس بصدده أقسى درجات التلبيس وعمليات التصنيف، فيشكل ذلك اغتصابا للمفهوم وظلما للكلمات حتى في جذرها، فيجعل من الوطن مرتعا للبعض بينما يقوم بجرة قلم أو وصف هنا أو تصنيف هناك بنزع صفة المواطن والوطنية، وتنهال أوصاف الخيانة وعدم الانتماء، فيكون ذلك إيذانا للجميع بإهدار دمه وذمته المعنوية في سياق حملات مدفوعة الأجر، ضمن أعمال لجان الكترونية تحاول أن تجهز على هذا المواطن باعتباره "الهدف"، فلا تتركه إلا جثة هامدة لا يستطيع حراكا، أو الدفاع عن نفسه، ولا عن وطنيته، بل ولا حتى عن مواطنيته، فيجبرونه من كل طريق أن يسلك طريق الهروب بذاته من تلك المعركة الشعواء حفاظا على كيانه الإنساني، وعلى صفة المواطنة والوطنية والتعبير عن الوطن في جوهره والانتماء لترابه.

إنها المفارقة العجيبة حينما يستخدم مفهوم الوطنية كسلاح خطير يطعنون به كل مخالف، فيحاولون من كل طريق أن يجعلوه عاريا من الوطن ومن المواطنة ومن الوطنية. ليس هذا التعبير استعارة أو مجازا، ولكنهم في الحقيقة قد يختلفون مع أي إنسان فيتركونه عاريا في صحراء جرداء يلتقطه من يلتقطه، أو ما يقومون به من وسائل تعذيب في أقبية سجونهم بتعرية المواطن بالأيام وبالشهور صيفا أو شتاء، رجالا ونساء وأطفالا.

يعبر هذا الأمر الخطير الذي نتحدث عنه -عن فهم خاطئ وخطير لمعنى الوطنية- حينما تتعمد منظومة الاستبداد العبث بأخطر المفاهيم وجذره اللغوي "وطن"، هذا العبث بالمفهوم إلى الحد الذي يعرض المواطن في هذا المقام إلى مثل هذه المظاهرة الخسيسة والحملات البئيسة حتى يضيق الأمر على ذلك المواطن ولو كان خارج بلده. وتبدو هذه المسألة حينما يقوم هؤلاء بنزع مفهوم الوطنية كمقدمات لنزع مفهوم المواطنة، بل وإسقاط الجنسية عن المخالف وإلجائه مع حرمانه من أوراقه الثبوتية إلى البحث عن لجوء في دولة أجنبية أو السعي للحصول على جنسية بلد آخر، حتى صارت الجنسية "عقوبة" وصارت أوراقه الثبوتية مجالا للمساومة والعبث منحا أو حرمانا، فتجعله تحت العقوبة، وتحت العقاب.
المفارقة العجيبة حينما يستخدم مفهوم الوطنية كسلاح خطير يطعنون به كل مخالف، فيحاولون من كل طريق أن يجعلوه عاريا من الوطن ومن المواطنة ومن الوطنية

يا لها من خطة جهنمية من نظام مستبد حينما تضيق بالمواطن بتضيق الوطن عليه، وتنزع عنه المواطنة، وتتهمه بالخيانة وتعريه من كل معاني الوطنية وما يمت إليها بصلة، إنها تريد أن تجعله منبوذا من جماعته ومن أهله، فهل تصدق مثلا حينما تختلف مع أحد أن يطارد هؤلاء أهله وعائلته حتى يخرجوا في وسائل الإعلام للإعلان عن التبرؤ منه، ومن معارضته لسلطان مستبد؟! أيضا حينما يعاقب الاستبداد من يعارض في أهله فيعتقلهم ويسجنهم ويطاردهم، وصولا إلى قتلهم في السجون بالإهمال الطبي أو سوء المعاملة. كل ذلك بعد أن استطاع المستبد أن يضع يده فاغتصب الوطن بكامله، واغتصب حقوق المواطن بأسرها، وداس على معاشه وكرامته، فإنه في النهاية ينزع عنه ثوب الوطنية متهما إياه بالخيانة.

حتى في الشأن الرياضي يتم تزييف الوعي في عالم المفاهيم وعالم الوطن والوطنية والمواطنة؛ فقد شهدت مصر مؤخرا حدثين رياضيين كشفا عن مستوى التراجع والتدني في الاهتمام بما هو وطني، في عهد الاستبداد الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عقب خسارة فريق كرة القدم المصري (المنتخب) لمباراة رياضية مع إثيوبيا، فقد أنزلوا باللاعبين العقوبات وكشروا عن أنيابهم واتهموهم بالفشل وطالبوا باستقالة المعنيين، بينما هذا الذي فشل في إدارة ملف سد النهضة وعقد معاهدة (اتفاقية مبادئ 2015) فرّط فيها في نهر النيل وحقوق الشعب المصري المائية؛ لم يتهمه أحد بالفشل ولم يطالبه أحد بالاستقالة، رغم الفشل الذريع والاستخفاف والاستهانة بالحقوق والقدرات والمقدرات.

ووصل به الاستخفاف أنه ابتدع سياسة القسَم في السياسة الدولية، فحينما أراد أن يستخدم سلاحه الفتاك لحماية حقوق الوطن المائية حمل رئيس الوزراء الأثيوبي على أن يقسم ألا يضر بمصالح مصر المائية: "قول ورايا.. والله والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر"، مؤكدا من جانبه "والله والله لن نضر بكم أبدا"، في مشهد هزلي يعبر عن متوالية الاستخفاف في أمر لا يحتمل إلا القول الفصل، وما هو بالهزل.

المشهد الثاني يتمثل في استباحة إعلام السامسونج لحياة لاعب الإسكواش المصري محمد الشوربجي، المصنف الثالث على مستوى العالم، بعدما أعلن عن اللعب باسم منتخب إنجلترا. فقد صال وجال الإعلام وكايد له وعايره بتجديد أوراقه الثبوتية أو أنه تم تقديم علاج له في بعض الأحيان.
تجاهل الاعلام الحديث عن آلاف الأطباء المصريين الذين هاجروا إلى بريطانيا وحصلوا على جنسيتها، من جراء ما يواجهه هؤلاء من تجاهل وإهمال ونكوص الوعود خاصة في أزمة كورونا

وأصدر اتحاد الإسكواش بيانا أقل ما يمكن وصفه به بأنه تقرير أمني تضمن معلومات شخصية عن اللاعب، وقد صادف أن جمعت مباراة بين الشوربجي ولاعب مصري آخر، فإذا بأحد الإعلاميين المصريين يطالب الشوربجي بالخسارة (يعمل أنه بيتغلب) لرفع اسم مصر عاليا، ولو كان تحقيقا للوطنية المزورة.

في الوقت نفسه تجاهل الاعلام الحديث عن آلاف الأطباء المصريين الذين هاجروا إلى بريطانيا وحصلوا على جنسيتها، من جراء ما يواجهه هؤلاء من تجاهل وإهمال ونكوص الوعود خاصة في أزمة كورونا.

ربما سيكون لنا مقال آخر عن مفهوم الوطنية الحق وارتباطه بمفهوم المواطنة الأحق الذي كتبنا حوله سلسلة من المقالات تعدت المئة، لنؤكد أن التلبيس في مادة "وطن" وجذرها اللغوي عند احتكار المعاني واغتصابها وملئها بالزيف والبهتان والكراهية، إنما يعبر في حقيقة الأمر على ضرورة أن نؤكد على مفهوم الوطن، والوطنية، والمواطنة، بالشكل الصحيح الذي يواجه كل تلبيس ويطارد كل التباس، ويحذر من ذلك الاستخدام المستخف باحتكار هذا المفهوم واغتصابه، فإن العبث بهذا الجذر الذي يرتبط بمصير عموم الناس في أوطانهم ليس بالأمر الهيّن الذي لا يمكن أن نمر عليه مرور الكرام، حينما يلبس به جوقة النظام؛ على مائدة المستبد من المنافقين واللئام.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)