هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رمضانيات القدس هي، أكثر من أي مظهر آخر، هذا الزحف لجمهرة المؤمنين إلى فريضة صلوات أيام الجمع، ربما كما لم يكن زحفا في أي رمضان سالف، على ما تقول تقديرات الصحف الفلسطينية، وأيضا، جمهور المصلين المواظبين على الحرم القدسي.
إلى ذلك، فإن محطّة التلفاز الفلسطينية الرسمية، بدأت في رمضان هذا العام نقل الصلوات بالبثّ المباشر، بما فيها صلاة «التراويح» يوميا، طيلة أيام الشهر الفضيل.
وكما هو متوقع، تفاوتت تقديرات جمهرة المؤدّين صلاة الجمعة الأول من رمضان بين 150 - 200 ألف مصلّ، في تقديرات الصحف اليومية الفلسطينية. أمّا في الجمعة الثانية، فتراوحت التقديرات الفلسطينية بين 200 - 250 ألف مصلّ.
إذا تواصل هذا الإقبال الرمضاني (الجمعة المقبلة، خصوصا الجمعة اليتيمة)، فمن المتوقع أن تسجِّل باحات الحرم القدسي إقبالا غير مسبوق.
الفلسطينيون لم يغيّروا «كليشة» الوصف الصحفي الكسول فيقولون: «على الرغم من إجراءات سلطات الاحتلال، فقد أمّ جمهور غفير الحرم القدسي». الحقيقة المجردة، هي أن الجانب الآخر المسيطر على القدس غيّر «كليشته» القديمة، حيث سهّل، بالذات يوم الجمعة الثانية من رمضان، إجراءاته، ربما لأن السلطة السياسية الإسرائيلية تريد الإشارة للفلسطينيين، إلى أن الجمود السياسي يمكن ألا يترافق مع تشديد أمني استثنائي على مصلّي الجمعة، ربما قد يزيد حدَّة التوتُّر العام.
في كل حال، قد ننظر إلى الإقبال الفائق على «حجّة» يوم الجمعة لساحات الحرم الشريف من زاوية أخرى، هي تأكيد ذلك التعلّق الفلسطيني المطلق بالقدس. وبينما تنقل معظم المحطات الفضائية العربية صلوات رمضان من الحرم المكّي، فإنّ خصائص الوضع الفلسطيني، ووضع مدينة القدس فيه، تجعل من الحرم القدسي كعبة الفلسطينيين الأولى في هذه الظروف؛ لأنّ الرحال تُشدّ إلى ثلاثة مساجد، المسجد الأقصى أحدها، كما في الحديث النبوي الشريف.
صحيح أنّ الحرم القدسي هو «أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين»، غير أنّ صورة القدس، وفي بؤرتها الحرم القدسي، تتصدّر الجدار في كل بيت فلسطيني تقريبا، سواء في فلسطيننا - الأرض المقدسة، أو حيث وجد الفلسطينيون في الشتات والمنافي.
أيضا، يلاحظ المرء أنّ نحتا بارزا لقبَّة الصخرة، يتصدّر واجهة البنايات الجديدة والقديمة الفلسطينية في كلّ مكان عربي من فلسطين. هذا إضافة إلى مثوله البارز للغاية في أعمال التطريز، وحتى عَلّاقات المفاتيح، ومفكّرات الحائط، أو الجيب، وما لا يحصره عدّ من مظاهر وتعبيرات التعلّق الفلسطينيِّ المطلق بالقدس.
لذلك، فعلى جبهة الرموز يُحرز الفلسطينيون في صراع القدس تفوقا كاسحا على الإسرائيليين في التعبيرات الدينية والفنّية الخاصة بقياس التعلّق بالمدينة المقدّسة.
ومع الاحترام الواجب لشعائر الأديان الأخرى (السماوية منها وغير السماوية)، فإن لطقس الصلاة الإسلامي تأثيرا خاصا ومهيبا، ووقعا عميقا في النفس، خصوصا في أثناء الركوع والسجود، والتكبير والتهليل، ولا بدّ أن الحرم القدسي العامر بالمؤمنين يوجّه رسالة واضحة إلى متطرِّفي الطرف الآخر، بأن القدس ليست مجرّد مدينة مقدّسة للديانات الثلاث، لكنها، كذلك، عنوان القداسة وعينها عند الشعب الفلسطيني.
إنّها ليست «كعبته» الأولى في الأيّام الرمضانيّة فحسب، وإنّما هي كعبته الفنّية والجماليّة، أيضا. فإذا كان لكلّ مدينة مَعْلَم رئيس يدلّ عليها، فإنّ للقدس مَعْلَما يختزلها؛ إنّه «قبّة الصخرة» بتشكيلها الفنّي المهيب، الذي يزيد من هيبة وقعه وجماله الأخَّاذ هذا البريق الذهبي. لا بل إن قبّة الصخرة مَعْلَم فلسطين الأبرز.
لذلك، يسهُل على الفلسطيني أن يجد صورة قبّة الصخرة في أيّ بيت من بيوت اللجوء الفلسطيني، بينما قد يجد صورة الكعبة المشرّفة في البيت العربي الإسلامي المجاور.
وما دامت الكعبة المشرّفة في مكّة لا يتهدّدها خطر، بينما يتهدّد الخطر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فقد كان الحريّ بالمحطات الفضائيّة العربيّة أن تستنّ لها تقليدا ببث صلاة المغرب، وصلاة التراويح، وصلاة الجمعة من الحرم القدسي الشريف، لتأكيد تعلّق المسلمين والعرب بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؛ ولأنها «العروة الوثقى» حاليا.
لا يعني هذا أنّ حقوق الفلسطينيين (والعرب والمسلمين والمسيحيين العرب منهم وغير العرب) في القدس مجرّد حقوق عبادة؛ لأن إسرائيل ذاتها لا تنكر ذلك، لكن كما الحرم القدسي العامر بالمؤمنين فريضة دينيّة، كما القدس الملأى بالفلسطينيين فريضة وطنية، كما القدس عاصمة فلسطين فريضة سياسيّة.
حقوق عبادة، وحقوق جغرافيا.. وحقوق سيادة.
(الأيام الفلسطينية)