أقدمت إسبانيا على موقف يحمل بُعدا استراتيجيا، ويفتح الطريق لعلاقة ستكون، إن عززتها خطواتها إيجابية أخرى، عميقة ومربحة للطرفين، ومستدامة في الزمن.
ففي نهاية الأسبوع المنصرم، بعث رئيس الحكومة الإسبانية "بيدرو سانشيز" رسالة إلى ملك
المغرب "محمد السادس"، أكد فيها بشكل واضح أن السلطات الإسبانية تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي (2007) بمثابة "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف" المتعلق بالصحراء المغربية. وأشاد في الرسالة ذاتها بـ"الجهود الجادة وذات المصداقية التي يقوم بها بها المغرب في إطار الأمم المتحدة من أجل تسوية ترضي الأطراف"، مؤكدا أن "المغرب وإسبانيا تجمعهما بشكل وثيق أواصر المحبة، والتاريخ، والجغرافيا، والمصالح، والصداقة المشتركة"، وختم بالإعراب عن يقينه بأن "الشعبين يجمعهما نفس المصير، وأن ازدهار المغرب مرتبط بازدهار إسبانيا والعكس صحيح".
تنطوي الفقرات المقتبسة من رسالة رئيس الحكومة الإسبانية على وضوح لا لبس فيه، وتحمل عمقا سياسيا لا خلاف حوله، بل إن ثمة أكثر من مؤشر ودليل على أن صياغتها تمت بانتقائية واعية ودقيقة للمصطلحات والمفردات، وأنها تروم بإصرار ومسؤولية إعادة بناء العلاقات المغربية الإسبانية على فهم جديد للجوار، الذي لا يمكن أن يكون إلا جوارا استراتيجيا، مؤسسا على المصالح المشتركة، وفي مقدمتها تلك التي لها صلة حميمة بعتبات السيادة، والمجالات الحيوية للمنافع المتبادلة.
يمكن اعتبار الموقف الإسباني المعبر عنه في هذه الرسالة تحولا نوعيا في سجل العلاقات المغربية الإسبانية، التي ظلت متأرجحة بين الصعود والنزول، واستمرت موسومة بالتوتر تارة، والدفء طورا آخر، وغدا عصيّا عليها لعقود أن تخرج من الدائرة الرمادية إلى فضاء الصفاء والوضوح
لذلك، يمكن اعتبار الموقف الإسباني المعبر عنه في هذه الرسالة تحولا نوعيا في سجل العلاقات المغربية الإسبانية، التي ظلت متأرجحة بين الصعود والنزول، واستمرت موسومة بالتوتر تارة، والدفء طورا آخر، وغدا عصيّا عليها لعقود أن تخرج من الدائرة الرمادية إلى فضاء الصفاء والوضوح، على الأقل منذ موت "الجنرال فرانكو" وطرح ملف
الصحراء المغربية عام 1975.
تكمن القيمة الإستراتيجية للموقف الإسباني الجديد في كونه سيُبدد، من جهة، الغيوم التي اعترت سماء العلاقات المغربية الإسبانية خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا في العام 2021، كما سيمُدّ الطرفين بشحنة معنوية، وقدر كبير من الاستعداد والإصرار لإحياء المشاريع المشتركة، وتطوير الموجود منها، لا سيما في القطاعات الأكثر جاذبية من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية. فبلغة الأرقام تتصدر إسبانيا قائمة الاستثمارات الأجنبية في المغرب، كما أنها زبون أساسي في واجهة المغرب الأوروبية، ناهيك عن الجوار الجغرافي للبلدين، وتاريخهما المشترك الممتد لقرون.
يمكن للموقف الإسباني الجديد أن يسمح للبلدين برسم طريق لشراكة حقيقية، مؤسسة على فلسفة جديدة، قوامها احترام متطلبات السيادة الوطنية، أي الوحدة الترابية والحدود التاريخية، وتغليب منطق الربح والمنافع المتبادلة، لا سيما في سياق دولي موسوم بالدقة والتعقيد.
مما جعل العلاقات المغربية الإسبانية متأرجحة بين منطقي التوتر والتعاون، تلك النظرة غير الواقعية للجارة إسبانيا للقضايا الحيوية للمغرب، حيث كثيرا ما ناكفت مطالب المغرب في استرجاع أقاليمه الجنوبية، وصيانة وحدته الترابية، خصوصا من حكومات اليمين الإسباني
فمما جعل العلاقات المغربية الإسبانية متأرجحة بين منطقي التوتر والتعاون، تلك النظرة غير الواقعية للجارة إسبانيا للقضايا الحيوية للمغرب، حيث كثيرا ما ناكفت مطالب المغرب في استرجاع أقاليمه الجنوبية، وصيانة وحدته الترابية، خصوصا من حكومات اليمين الإسباني، علما أن إسبانيا نفسها عانت وتعاني من نزعات الانفصال في إقليم كاتالونيا، وقد تعرضت باستمرار وما زالت لتفكيك وحدتها الوطنية، التي تمّ الإجماع على صيانتها، وكرّسها دستور الانتقال الديمقراطي لعام 1978.
لذلك، يمثل الموقف الإسباني الجديد، وتثمين قيادته جدية المقترح المغربي بخصوص
الحكم الذاتي في نطاق السيادة المغربية، وواقعية ومصداقية الرؤية المغربية لحل النزاع، أرضية واعدة بنقل البلدين إلى مرحلة نوعية في علاقاتهما الثنائية، بل يمكن أن يكون للموقف الإسباني تأثيرات إيجابية بالنسبة للأطراف الأوروبية الأخرى في اتجاه الاعتراف بحقوق المغرب في وحدته الترابية، كما حصل نسبيا لألمانيا، ويُنتظر أن يحصل بشكل صريح وواضح بالنسبة لفرنسا.
جدير بالإشارة أن مؤشرات عودة الروح إلى العلاقات المغربية الإسبانية باتت واضحة منذ مطلع العام 2021، حين أشار العاهل الإسباني "فيليبي السادس" في تصريح أدلى به؛ إلى أن "مدريد تشجع على السير جنبا إلى جنب مع المغرب لبناء علاقة جديدة على أسس متينة"، بعد أزمة دبلوماسية مرّ منها البلدان في أعقاب استقبال إسبانيا زعيم "
البوليساريو" إبراهيم غالي، وواقعة الهجرة المتدفقة في اتجاه إسبانيا. وقد تداولت الصحف الإسبانية الأساسية، مثل "الباييس" و"الموندو"، تصريح العاهل الإسباني، مشددة على أن الملك "فيليبي" يتطلع إلى "عودة العلاقات بين الرباط ومدريد إلى سابق عهدها".
يتطلع المغرب إلى خطوات أخرى نوعية وعميقة من جانب السلطات الإسبانية، في المجالات الأكثر خدمة للمصالح المشتركة للبلدين، الاقتصادية والسياسية والأمنية. فكل خطوة تتحقق في علاقات البلدين على قاعدة روح الموقف الإسباني الجديد ستشكل دعما فعليا للطريق الجديد الذي يُنتظر أن يسير عليه المغرب وإسبانيا
ومن جهة المغرب، كانت رؤيته واضحة منذ سنوات، كما عبرت عنها الخطب الملكية، وتصريحات وزير الخارجية، حين أبرزت مركزية المصالح الحيوية للمغرب، وأولوية احترام سيادته الوطنية، وبناء علاقات الجوار على أسس واضحة وواقعية وخالية من الغموض والالتباس.
يُنتظر من العلاقات المغربية الإسبانية أن تنتقل في القادم من الشهور إلى تكريس روح ما ورد في رسالة رئيس الحكومة الإسبانية إلى العاهل المغربي، كما يتطلع المغرب إلى خطوات أخرى نوعية وعميقة من جانب السلطات الإسبانية، في المجالات الأكثر خدمة للمصالح المشتركة للبلدين، الاقتصادية والسياسية والأمنية. فكل خطوة تتحقق في علاقات البلدين على قاعدة روح الموقف الإسباني الجديد ستشكل دعما فعليا للطريق الجديد الذي يُنتظر أن يسير عليه المغرب وإسبانيا، بأفق تأسيس شراكة استراتيجية جديدة خالية من ضغط التاريخ، والرؤى النمطية التي رهنت البلدين وعلاقاتهما بثنائية التوتر والتعاون.