كانت
مساعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو، السبب المباشر المعلن للحملة العسكرية
الروسية ضد كييف، بينما يشير بعض المحللين إلى أسباب تتعلق بطموح
بوتين لإحياء إرث
الاتحاد السوفيتي، في حين يعتقد آخرون أن هناك أسبابا مبطنة أخرى للغزو، من بينها
رغبة فلاديمير بوتين بالاحتفال بعيد الفصح في كييف.
ورأت
المؤرخة الأمريكية البارزة ديانا باتلر باس، المختصة بتأريخ المسيحية، أن العامل
الديني لعب دورا في قرار الغزو، مشيرة إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا الذي نشهده
اليوم، ليس إلا فصلا جديدا من حكاية قديمة، ستكون نهايتها "السعيدة" -من
وجهة نظر بوتين- الاحتفال بقداس الفصح في كييف.
وأوضحت
أن "كييف تعدّ بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس بمثابة القدس، لذلك فإن الصراع
"على أوكرانيا هو أيضا صراع على أي أرثوذكسية ستطبع وجه شرق أوروبا"،
مؤكدة أن العملية العسكرية التي أعلنها الروس لا تقل أهمية، من وجهة نظرهم، عن
"حملة صليبية لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين".
ويعود
السبب في ذلك إلى رمزية كبرى تتحلّى بها مدينة كييف في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية،
إذ إنها لعبت دورا تأسيسيا، وتعد الموطئ الأول للمذهب في الوعي الجمعي الروسي.
واعتبر
بعض المؤرخين أن أحد العوامل الممهدة للغزو الروسي الراهن، كان انفصال الكنيسة
الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، عام 2018، إذ كانت جزءاً منها منذ عام 1686، وفق
هيئة الإذاعة البريطانية "
بي بي سي".
وأدى
استقلال الكنيسة الأوكرانية إلى انقسام أوسع على مستوى الكنائس الأرثوذكسية، مع
إعلان الكنيسة الروسية انفصالها عن العائلة الأرثوذكسية الجامعة، احتجاجا على دور
برثلماوس الأول، بطريرك القسطنطينية المسكوني، في إصدار مرسوم الاعتراف بالكنيسة
الجديدة.
وقال
الكاتب مايكل خوداركوفسكي في "نيويورك تايمز"، إن إعلان الكنيسة
الأوكرانية انفصالها عن الكنيسة الروسية، شكّل "ضربة خطيرة لطموحات بوتين
والكنيسة الروسية على مستويات عدة، إذ يمثل الأوكرانيون الأرثوذكس 30 بالمئة من
مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو.
ويعني
الانفصال خسارة ملايين الأتباع، وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة".
وقال
الباحث بن راين في كتاب بحثي بعنوان "القوي وكلي القدرة" صادر عن مركز
أبحاث "ثيوس" عام 2017، إن العلاقة بين الرئيس الروسي والكنيسة
الأرثوذكسية "علاقة حيوية تكافلية غير عادية".
وأضاف:
"في عهده، سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها، وقدم لها الدعم كما لم يفعل أي
حاكم روسي منذ الثورة البولشيفية".
وبحسب
راين، فإن
روسيا لم تشهد منذ عهد القياصرة قائدا مثل بوتين، "يظهر الحاجة
والرغبة لاستخدام الكنيسة بطريقة مفيدة لدعم سياساته الداخلية والخارجية"،
حتى في عهد بوريس يلتسن، حين أرادت الدولة الروسية التكفير عن ذنوب الحقبة
السوفيتية التي قمعت الممارسات الدينية بالكامل.
وأعرب
عن اعتقاده في أن الكنيسة باتت رمزا من رموز قوة بوتين، وللدلالة على علاقتهما
العضوية، يذكّر بالحركة الاحتجاجية التي نفذتها فرقة "بوسي رايوت"
الغنائية داخل كاتدرائية موسكو.
وتابع:
"من الصعب التفكير بقائد أوروبي علماني آخر، يكون الاعتراض الأشد رمزية ضده،
موجهاً من داخل كنيسة".
وبحسب
دراسة أجراها مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث، فإنّ المسيحية الأرثوذكسية
شهدت نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في
الدول المحيطة لها، حيث يعرّف 70 بالمئة من السكان أنفسهم كأرثوذكس.
قلادة
الصليب
بحسب
موقع مؤسسة "هريتدج" الأمريكية، فإنّ بوتين ينصب نفسه كمدافع عن
التقاليد المحافظة وعن مكانة الكنيسة، من خلال خطاب معلن يرفض الطلاق، والمثلية
الجنسية، ويشجع قيم الأسرة التقليدية.
ورأى
مراقبون أن بوتين، وبغض النظر عن قناعاته الدينية الشخصية، يريد توظيف تلك القيم
المسيحية التقليدية، من أجل التأثير السياسي.
ولكن،
يعتقد آخرون أن الأمر يعدو كونه أداة وظيفية، إذ يحرص بوتين على إظهار جانب تقيّ
ورع في صورته العامة، بالرغم من تكتمه الشديد حول نشأته وحياته الخاصة.
الحضارة
الروسية المقدسة
يعدّ
ذلك من المؤشرات الأساسية على رغبة بوتين في جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة في
مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وأداة قوية لدعم أيديولوجيته السياسية عن روسيا
المقدر لها أن تكون قوة عظمى.
لذلك
بذل بوتين جهوداً كبرى في دعم الكنيسة ماديا ومعنويا وسياسيا، بدءا من استعادة
مقتنيات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء آلاف الكاتدرائيات، إلى
جانب إدراج مادة عن الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية.
يضاف
إلى ذلك أن الكنيسة تلعب دورا مهما في الجيش الروسي، وقد شوهدت خلال العمليات
الأخيرة في أوكرانيا تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات العسكرية الروسية، إذ
يبارك كاهن الأسلحة أحياناً في ساحات القتال، ويقيم الصلاة مع الجنود.
وللدلالة
على العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والجيش، شيدت القوات الروسية المسلحة كاتدرائية
خاصة بها في موسكو، افتتحت في عام 2020، احتفالاً بالذكرى الـ75 لانتصار روسيا في
الحرب العالمية الثانية، واحتفاء بمآثر الشعب الروسي العسكرية في الحروب التي
خاضها.
من
جهته، يبادل بطريرك موسكو كيريل الكرملين والجيش الروسي مشاعر الفخر ذاتها، ويتحدث
في أحد خطاباته عن دور الكنيسة في ضمان وحدة الشعوب الروحية في الدول القائمة على
أراضي "روسيا التاريخية"، وأهميتها في حماية منظومة "القيم
الأرثوذكسية التي تحملها الحضارة الروسية المقدسة للعالم".