قضايا وآراء

بَيْنَ العَجَبِ والإعْجَاب.. تَأَمُّلٌ وتَذَكُّر

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

في آخر الخريف تَنتُفُ الريحُ ملابس الأشجار عِملاقة وقَزْمة، شجرتُنا العملاقة غزتها رياح الخريف، وها هي تَهتزُّ وأغصانها ترتجف وأوراقها تتطاير وتتعرَّى شيئاً فشيئاً، لكنها تبقى واقفة وشامخة كأنما تتحدَّى الخريف وعواصف الشتاء وتذكِّر من تنفعه الذِّكرى بأن الأشجار تموت واقفة. 

العُصفور الأخضر والورقة الصّفراء كانا على شجرتنا العملاقة ذاتها، يتفيأ العُصفور الورقة، يوشوشها، يقاربها بمنقاره كأنما يناغشها، وينظف وجهها حين تحطُّ عليه الحشرات، ويراعيها ويدغدغها كأنما يتعشَّقها.. يفتح جناحيه ويغادر الشجرة ثم يعود إليها، ويلقي على ما حوله نظرة من فوق وهو في مستقر آمن، ويعود لمناغاة الورقة ومن يشاء من الطير. 

حين هبت عليهما رياح عاصفة تشبثا بمواقعهما وقررا الصمود بوجه دوامات الريح.. المواجهة ليست سهلة والقوى ليست متكافئة، خسرا المعركة.. الورقة اقتُطِعت من عنقِها، ركضَت، تطوَّحَت، ترنَّحَت.. والعصفور ثبت فوق الغصن المرتجف ينظر إليها، تزعزع ثم انطلق وراءها، لاحقها، جاراها، تماوج معها، حاول إنقاذها، لكنه لم يستطع، وجرفته هبة ريح أبعدته عن المكان. الورقة الصفراء هوَت، وها هي تفتَرِش الأرض الرطبة، وتنظر إلى أمها الشجرة باستجداء وحسرة وحنين.. 

لا يوجد عون من أي نوع ولا حتى دمعة تغسل العين وترطب القلب.. بدأت تيأس، تذوي، تذبل، تتلطخ بالوحل.. حين رآها العصفور تفترش الأرض ولا تقوى على الحركة اقترب منها فنفَّرَه حذاء قوَّة وداسها، رآها جثة، أصبحت من وسخ الأرض ومن اللاشيء.. أحس بالعجز وداخله الرعب وارتعد فالقوة قاسية وحاكمة وقد تداهمه.. ارتفع في الفضاء وحلِّق عالياً، دار عدة دورات حولها ثم حطَّ على أعلى غصنٍ في الشجرة العملاقة التي كانا عليها، وأخذ يتأمل الشجرة والورقة الجثة من فوق.. إنه لا يهدأ، يحرك رأسه وعنقه، ينفش ريشه، ينقر تحت جناحيه، يقفز قفزة قصيرة، ينقر غصناً بمنقاره، يطير ويحوم حول جثة الورقة ثم يعود إلى الشجرة، ويستمر قَلقاً فهو مكشوف..
 
لا أعرف ما الذي كان يجول في رأسه الصغير، ربما أحسَّ بالفَقْد، بالفراق، بالخوف، ربما فكَّر بذاته وبمصيره، ربما.. وربما.. وربما.. لكنه كائن يريد أن يكون ويقدر.. تُرى ماذا كان يقول للورقة، وما الذي يفكِّر به ويقوله الآن وهو في وضعه ذاك؟! أتوقَّعُ، أُخَمِّنُ.. لكن لا يوجد عندي يقين فذاك عالمٌ مغلق، وأنا أجهل لغة الطير.. وأقطع بأن الصوفي العتيد "فريد الدين العطار" صاحب كتاب "منطق الطير" لا يعرف ماذا يدور في رأس عصفور تعرت شجرته المؤثلة، وفارقته رفيقتُه الورقة المُظَلِّلَة المُدللة، وبقي وحيداً يرتجف في مهب رياح خريف تُسْلِمُه لرياح الشتاء.

 

دروس الحياة كثيرة وكبيرة ولا نهاية لها.. ومنها درس "الكينونة الطُّفَيْليَّة التي لا تملك ذاتها بذاتها ولا تُفَعِّلُ إرادتها"، فالكائن الطُّفيلي الكينونة منقوص الحرية، لا يملك القدرة على الانعتاق، ولا يتمتع بحق تقرير المصير باستقلالية تامة..

 



ليس عندي جواب يشفي الغُلَّة على سؤال يكاد يكون العِلَّة وأهم سبب من أسباب شقاء أولئك الذين يعيشون قلقاً وجودياً مرهقاً في الحياة، ويخافون القوة الغاشمة، وترتعد فرائصهم عندما يُذكَر الموت.. لكنني أجدني في كثير من الأوقات مُرغَماً على مقاربة وضع حيٍّ يعشق الحياة ويخاف من بطش الأحياء، وضعَ الإنسان من بين الكائنات الحيَّة الذي يحب الحياة ويبطش بالأحياء.. أهو مدفوع بالخوف أم محكوم بالمُغالبَة؟!.

أُقدِّرُ أن الكائنات الحية لا تحب السقوط، هي حية بذاتها أو حية بغيرها وتتشبث بوجود حي ونوع حياة.. الورقة على الشجرة كانت حية بغيرها، خضراء على غصن شجرة، تمتص نسغ الحياة من أمها وتستمتع بالشمس، وتوشوش العصفور، وتمرح قدر استطاعتها.. حتى وهي صفراء عليلة في خريف العمر كانت تمتص النَّسَغ، وربما كانت تأمل بمغالبة السقوط والعدم والبقاء حَيَّة.. أمَّا العصفور فكان حياً بذاته، يعيش لذاته، ويبحث عن قُوتِه، يركض في الفضاء بإرادته، ويعود إلى عشه في الشجرة بإرادته.. الريشة في جسمه تشبه الورقة على غصن الشجرة، تستمد حياتها منه، تمتص من دمه، وعندما تنفصل عن جسده لا يستطيع استعادتها، ولا يملك لها إنقاذاً وهي بدورها لا تقوى على العودة إليه ولا تورِّثه أخرى، إنها ميتة بذاتها حية بغيرها.. تهوي بلا إرادة مثلها مثل الورقة الصفراء المُنْحَتَّةِ عن الشجرة، تموتان وتصبحان بعضَ وسخ الأرض ومن اللاشيء. أهكذا يكون من يفقد ذاته ويُسلَخُ عن أَهله وداره وأرضه ومواطن عشقه ووطنه وشعبه وأمته؟!

دروس الحياة كثيرة وكبيرة ولا نهاية لها.. ومنها درس "الكينونة الطُّفَيْليَّة التي لا تملك ذاتها بذاتها ولا تُفَعِّلُ إرادتها"، فالكائن الطُّفيلي الكينونة منقوص الحرية، لا يملك القدرة على الانعتاق، ولا يتمتع بحق تقرير المصير باستقلالية تامة.. إنه يعيش بالآخرين وعليهم، يلتصق بأجسادهم كالعلَق، ويمتص دمهم، ويستمد منهم نسغ الحياة.. وحين يُنبَذُونه أو يُزعزعه ما يفصمه عنهم أو ينفصل لسبب ما، يسقط وتسكنه الكآبة ويفترسه اليأس ويَأخذ بالذُّبول، ولا يلبث أن يصبح بعضَ وسخ الأَرض وبعض اللاشيء.. 

إنه كذلك لأن كينونته منقوصة، فهو لم يعتد على أن يعيش بذاته ولذاته مكتفياً بقدراته.. لم يتمتع باستقلالية تشعره بإرادته وقوامه ومكانته وكرامته، ولم يستعمل عزيمته ويمتحن إصراره على المغالبة في ميادين الحياة، لم يركض في أرجاء الأرض ويتعثر ثم ينهض ويتابع الركض، ولم يتطوَّح في الفضاء الرحب بَحثاً عن إبداع، وتأكيداً لوجود، وكسباً لمقومات عيش وفرادة، ونُشداناً لحرية ومتعة، وممارسة لسعي إرادي ينمي الذات في بيئة حياة.. لقد اكتفى أو ارتضى بأن يكون الطُّفيلي الذي يمتص نسغ حياته من الآخرين، فلا هو ذاته ولا مستقلاً بذات، ولا يستطيع أن يعود بإرادته كما يعود العصفور إلى عشه الذي بناه بقدراته.. إنه لا يتأمل فيما حوله ولا يتفاعل مع من هم حوله، ولا يتعلم، ولا يكاد يرى أبعد من أنفه.

تثير العَجبَ مخلوقات بشرية منقوصة الكينونة خَلْقِيَّاً، لكن ما يثير العَجَبَ والغضب أكثر مخلوقات ذوات حيوات وقدرات وطاقات ومَلَكات، تعيش طُفيليَّة وتواكلية وتبعية انسحاقية بالاختيار والاعتياد، تلغي إرادتها وقدراتها على أن تكون، وسعيها لكسب قُوتها وأخذ مكانتها وتحقيق ذاتها بجهدها واجتهادها، وترفض استقلالية تشعرها بحُرية وكرامة وعيش مع أحرار متساوين في فضاء إنساني رحب يزداد رحابة بالتآلف والتعاون والتكاتف، ترفض ذلك وتجعل همّها في الحياة أن تخدم ذواتاً أخرى بعماء وغباء.. فينتج عن ذلك التَّدني والانسحاق والانهيار تنمر مخلوقات بشرية تستولي على السلطة وتسخر القوة لسلب البشر الآخرين الكينونة الحرة والاستقلال والقدرة والإرادة والحرية، وتضيِّق عليهم العيش، وتحاصرهم وتهصرهم وتحرمهم من حقوقهم ومقومات حياتهم، وتجبرهم على أن يعيشوا تبعية وعبودية ودنية أدنى من طُفيلية بكثير.

 

هل يتعلم الإنسان ويستنفر إنسانيته ويترك المُغالبة الوحشية الدامية، ويكون ذاته، ويعيش حياته ببساطة، ويقرأ دروس الحياة في مصائر الأحياء وفي سائر الكائنات الحية.. وينظر إلى الورقة التي تصفرُّ وتنفصل عن الشجرة الأم وتذبل وتذوي وتدوسها الأحذية، وإلى العُصفور الذي يموج في الفضاء الرَّحب مثل شعاع، ويزدهي تحت نور الشمس، ويتفيأ الظلال..

 


هناك الكثير مما يثير العجب والغضب، ولكن هناك أيضاً ما يثير الإعجاب ويستحوذ على الاهتمام ويستحق الإكبار، رغم ما يزرعه في القلب من ألم.. إنها جماعات بشرية تعيش استقلاليتها بتكلفة باهظة، تكتوي بنار الواقع وتثابر على التحدي، تصبر على البؤس وترفض اليأس، وتصر على التعلق بما تراه الحياة الحقة "الأخلاق والقيم، المكانة والكرامة، الحق والعدل، والنضال من أجل الحرية وضد الظلم والاستعباد والتجبر والتنمر..".. إنها جماعات تعمل وتشقى وتأكل من عرق جبينها، وتشعر بالرضى عن الذات حتى لو جَرَّت المَحاريث وجَرَّحت أعناقَها الأَنيارُ.. إنها جماعات بشرية منتمية بصدق وشرف لعقيدة وأرض وتاريخ، ترابط وتصابر وتقاوم، وترفض أن تستسلم للظلم والقمع والذل، وتدفع ثمناً باهظاً جداً قد يكون حياتها، دفاعاً عن هُويَّتها وقيمها وانتمائها وإيمانها، عن خياراتها الحرة وحقها في الحياة بحرية وكرامة.. تشقى نعم، تتألم نعم، لكنها تعمل ولا تقنط، وتنتظر الفرَج من الله لا من سواه.
  
المرء يرى، يفكر، يتفاعل، يتألم، يتعلَّم ويتأمَّل.. إنها الحياة بمقوماتها وقيمها وقيمتها، الطبيعة بنظامها وقوانينها وقواعدها، بغناها وانفتاحها وصرامتها وقسوتها.. إنهم الناس في تكالبهم وتغالبهم واستماتتهم على المغالبة، وفي غمرة ذلك يتساءل: أتُراها المُغالَبَة حتى الموت هي التي تحكم الحياة وتشكل قوانينها النافذة وقواعدها الصارمة، وينبغي أن تستقطب البشر وجهدهم وعزمهم واهتمامهم؟! إن معظم الدلائل والقرائن تشير، بأسى وأسف وألم، إلى أن نعم. ففيما يُرى ويُسمع ويُقرأ ويُستقرأ من حياة وتاريخ أحياء: يُستنتَج أن مغالبة القوة تلك تستبيح الأساليب والأدوات والوسائل كافة.. لا تحكمها أخلاق، ولا تردعها أديان، ولا تخضع لعدالة.. إنها مغالبة قد تخفي الوحشية بأقنعة وبقفازات حريرية أحياناً لكنها في العمق: قاسية، شرسة، دموية، مدمرة، ووحشية لا ترحم.. دائبة الحركة حتى حين يرين السكون الظاهر، جُوَّانيُّها يرسمُ بَرَّانيَّها ويوجهه ويحركه ويحكمه ويتحكَّم به.
 
مغالبة رأسها الإنسان، وغايتها الإلغاء والسحق والمحق والإماتة المادية والمعنوية، لا يسلمُ من هُبوب رياحها العاتية وأعاصيرها المدمرة أحد، تحوِّل الأحوال وتزري بكل مقام ومقال ومآل، وتَهوي بالعِمران والأَبدان والأرواح والقيم إلى مهاوي الردى، وتقيم الشواهد في معظم الأحيان على شراسة الإنسان وتناقضاته، وعلى مسؤوليته عن الإزراء بقيمه وقيمته ومكانته وحياته، وتحكم بأن أياً من كان ومهما كان المتنر المتوحش الشرس فإنه يؤول في نهاية المطاف إلى الضعف والذبول والأفول، مهما قوي واستقوى، وحشد وأغوى، وتكبر وتجبر، وطوَّر وتطور وتكبر وتنمر، ومهما نما عقله، وزاد علمه، وجلَّ فعله، وأبدع وأمتع فإنه إلى اضمحلال وزوال.
 
فهل يتعلم الإنسان ويستنفر إنسانيته ويترك المُغالبة الوحشية الدامية، ويكون ذاته، ويعيش حياته ببساطة، ويقرأ دروس الحياة في مصائر الأحياء وفي سائر الكائنات الحية.. وينظر إلى الورقة التي تصفرُّ وتنفصل عن الشجرة الأم وتذبل وتذوي وتدوسها الأحذية، وإلى العُصفور الذي يموج في الفضاء الرَّحب مثل شعاع، ويزدهي تحت نور الشمس، ويتفيأ الظلال.. وسواء أَأَدرك أم لم يُدرك.. فإنَّ نهايته المحتومة تنتظره، ومصيره المُقرَّر معروف، ومآله مآل الورقة الصفراء التي هوت والريشة التي نتفتها ريح الخريف من جسمه.. إذ كلٌ أصبح من وسخ الأرض وبعض اللاشيء.
 
لكل حي نهاية مهما اشتدَّ وامتدَّ وتكبَّرَ وتجَبَّر طال به العمر، فمصير الأحياء واحد، وقانون الخالق يحكم الخلق كافة، وكلٌّنا إلى الله سبحانه وتعالى راجعون. وليرحم الله مَن يَذكر ويُذكِّر فلعل الذكرى تنفع المؤمنين، وفي مَن نسأل الله له الرحمة شاعرنا كعبُ بن زهير بن أبي سُلمى الذي قال:


كل ابن أُنثى، وإنْ طالتْ سلامتُه                     يوماً على آلةٍ حَدباءَ مَحْمولُ 


التعليقات (0)