قضايا وآراء

إني أتهم

جلال الورغي
1300x600
1300x600

تسابق الكثير خلال العام الذي أسدل عنه الستار إلى الإعلان عن "نهاية الإسلام السياسي" وهزيمته، مستندين في ذلك إلى معطيات وأحداث ووقائع، من قبيل نتائج الانتخابات المغربية، وقبلها ما حصل في 25 تموز (يوليو) الماضي في تونس من انقلاب على المؤسسات الدستورية وعلى الدستور، أقدم عليها قيس سعيد واحتفى بها الكثير، وأيضا نتائج الانتخابات في الجزائر والأردن، التي تأخر فيها الإسلاميون حسب النتائج المعلنة. تسابق الكثير من الكتاب والمحللين والسياسيين طبعا إلى إعلان "فشل" أو "نهاية الإسلام السياسي"، حتى وإن تباينت واختلفت الدوافع وراء هذا الموقف، الذي يبدو للبعض خلاصة وخلاصا.

اللافت أن الكثير من النخب العربية والتي يتوقع منهم أن يكونوا في طليعة القوى الحالمة بالتغيير والمدافعة عنه، وهم يندفعون باتجاه هذه الخلاصة، تغافلوا تماما عن الحقيقة المتجلية في المشهد، وغير الخافية عن الغالبية منهم، أن ما تلحق به الهزيمة اليوم وما يتم إفشاله هو الحق في التغيير، وهو المسار الديمقراطي الوليد وهو الأمل. أمل عبرت عنه الثورات، ربيعا عربيا قبل عشر سنوات، قبل أن تنطلق آلة الدكتاتورية والثورة المضادة، معطوفة على قوى خارجية في الدوران لدهس هذا المسار، وطمس هذه الشعلة. أما الإسلام السياسي فهو فكرة مرتبطة بدين، قد تتطور لكنها ستظل موجودة..

نُشرت قبل سنوات ورقة بحثية بتمويل من وزارة الدفاع الأمريكية، حول أزمة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، وكان ملخصها، أن أبرز العوامل التي تعوّل عليها الدكتاتوريات العربية للبقاء في السلطة، هو الصراع الدامي والمزمن بين من أسمتهما الورقة القوى "الإسلامية" والقوى "العلمانية"، وشددت الورقة على أن هذا العامل كلما ضعف، إلا وتدخلت الدكتاتورية لتغذيته وتأجيجه لاستدامته، لأنه يمثل بالنسبة إليها مسألة وجودية.

لعوامل متعددة ومجتمعة، قامت الشعوب العربية، قومة لافتة، أطاحت بدكتاتوريات عربية، مغربا ومشرقا. وعبر انتخابات حرة وديمقراطية سلمت قيادة تلك البلدان للقوى السياسية المحسوبة على التغيير. فجأة ودون سابق إنذار تجدد الصراع والاستقطاب بين المحسوبين على القوى العلمانية الذين وقفوا في خندق، في مواجهة المحسوبين على الإسلاميين. احتدم الصراع وعاد التجاذب بين التيارين، رغم أنه تراجع إلى أدنى مستوياته قبيل الثورة بسنوات، حتى عبّر عن نفسه في شكل جبهات سياسية، من مثل التي شهدتها تونس تحت مسمى "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات"، وفي مصر تحت راية "كفاية"، وفي بلدان عربية أخرى في شكل تنسيقيات. 

عاد التجاذب والانقسام على أشده، عودة كانت في الغالب مفتعلة، ومخططا لها من أجل إضعاف قوى التغيير، وضربهم ببعض، للانقضاض بعد ذلك على مسار التغيير نفسه، والإجهاز عليه. 

 

المدخل الأساسي من أجل كسب رهان معركة الحاضر والمستقبل هو تجديد النخب السياسية، والمشاريع التغييرية، وتصفية إرث المعارك الأيديولوجية العبثية والوهمية. الأفكار الكبرى لنهضة هذه المنطقة، لا يمكن أن تكون أسيرة تنظيمات حديدية، يسارية كانت أم يمينية، علمانية كانت أم إسلامية، إن المعارك القادمة يجب أن تكون من أجل الأوطان والإنسان، وليس في سبيل الرهانات الأيديولوجية الخاسرة.

 



كان مشهدا عبثيا عندما وقفت رموز محسوبة على قوى التغيير، جنبا إلى جنب تبايع جنرالات منقلبين، بل وتقدم لهم الدعم تبريرا للانقلاب ودفاعا عنه. وقف آخرون يتابعون بشغف هجوم قوى الثورة المضادة على المسار الديمقراطي، على أمل أن تؤول محصلة المعركة لصالحهم كتيار ثالث، لا برؤيته وبرامجه، وإنما بحياده في معركة كان يفترض أن يكون جزءا منها، مدافعا عن المسار الديمقراطي. حتى إذا انفرد الانقلاب بالحلقة الأولى، فأجهز عليها، دارت عجلته باتجاه الحلقات الأخرى، غير مبالية بالحياد ولا حتى بالتأييد، لأن مخططها الاستحواذ وليس الشراكة، الاستئثار وليس التقاسم. كان هذا المسار الانتكاسي واضحا جليا في مصر وليبيا وتونس واليمن.         

لقد كشفت التجربة السياسية في المنقطة العربية عن إشكاليات بنيوية كبرى، جعلت منظومة الحكم الاستبدادي تستحكم وتستحوذ على الشأن العام لعقود دون منافسة جدية، ولا تهديد حقيقي لمواقعها من قبل نخب سياسية، نخب تشبعت بالأيديولوجيات وأحلام التغيير، لكنها فشلت في ترتيب أولوياتها السياسية.

فرغم الفرص المتعددة التي أتيحت لهذه النخب باستخلاص العبر من مسار سياسي زاد عن نصف قرن، فوّتت هذه النخب الفرصة تلو الأخرى، من أجل الخلاص النهائي، والتحرر من الاستبداد. فأعادت برهاناتها الخاطئة كل بلدان المنطقة بين قبضة أنظمة استبدادية انقلابية. أنظمة دكتاتورية أعادت إنتاج نفسها على أنقاض الصراعات الزائفة، والمعارك المفتعلة، والانقسامات العبثية بين التيارات السياسية التي كانت تمثل الأمل في التغيير والتحول الديمقراطي.

ففي اللحظة التي كانت آلة الثورة المضادة تتحرك لتدهس المسار الديمقراطي، وتحطم ما تعبّد فيه من طريق، مؤسسات منتخبة، وحريات منبسطة، نهضت قوى ونخب تحتفي بهذه الردة، وترى فيها هزيمة نكراء لخصومها ومنافسيها، رفاق التغيير ومقاومة الاستبداد. فحُبرت مقالات محتفية بهزيمة "الإسلام السياسي" و"فشل الإسلام السياسي"، و"نهاية الإسلام السياسي"، داعمة لمسار الانقلابات ما دام المستهدف به خصما ومنافسا، محمّلة إياه وحده كل الأزمات السياسة والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية.

 

لم يعد ممكنا خوض معارك التغيير بنخب تجر وراءها إرثا من الصراعات الأيديولوجية، والمواجهات الدامية حول الماضي، التي لا تكاد تنتهي حتى تتجدد. وهي إذ تفعل ذلك إنما هي تجهض فرص التغيير وتعدم شروط إنجازه.

 


ونحن نطوي عقدا عن انطلاق الثورات، التي تحولت من رافعة للأمل في المستقبل، إلى وضع دام، تسيدته الثورات المضادة، ورعته القوى الخارجية الكبرى، ليس أمام شعوب المنطقة ونخبها إلا التقاط الأنفاس، والاستئناف. استئناف معركة الإصلاح والتغيير. ليس قدرا أن تبقى هذه المنطقة من العالم، مستنقعا آسنا لأنظمة الاستبداد وناديا مزدحما بالدكتاتوريات. ولعل المدخل الأساسي من أجل كسب رهان معركة الحاضر والمستقبل هو تجديد النخب السياسية، والمشاريع التغييرية، وتصفية إرث المعارك الأيديولوجية العبثية والوهمية. الأفكار الكبرى لنهضة هذه المنطقة، لا يمكن أن تكون أسيرة تنظيمات حديدية، يسارية كانت أم يمينية، علمانية كانت أم إسلامية، إن المعارك القادمة يجب أن تكون من أجل الأوطان والإنسان، وليس في سبيل الرهانات الأيديولوجية الخاسرة.

الغريب أن كل هذه التيارات مرت بامتحان القمع والاستئصال في المنطقة، من التيار القومي، إلى اليساري، فالإسلامي، ورغم أن آلة القمع داستهم جميعا، إلا أن هذه التيارات ما إن تلتقط أنفاسها، حتى تتغافل عن عدوها وجلادها، لتفتعل معاركها الأبدية فيما بينها على قاعدة الخصومات الأيديولوجية، بدل الالتفات إلى عدوها الوجودي وهو الاستبداد والدكتاتورية، المتحكم داخليا والمدعوم خارجيا.
 
لم يعد ممكنا خوض معارك التغيير بنخب تجر وراءها إرثا من الصراعات الأيديولوجية، والمواجهات الدامية حول الماضي، التي لا تكاد تنتهي حتى تتجدد. وهي إذ تفعل ذلك إنما هي تجهض فرص التغيير وتعدم شروط إنجازه. 

*كاتب وباحث تونسي


التعليقات (0)