أزمة سنّة لبنان في سياق أزمة المشرق العربي

فرضت إيران علينا التحدث بلغة طائفية، بل أكثر من ذلك، أصبح المنظور الطائفي للأحداث التي تحصل في المشرق العربي هو المنظور الواقعي والذي من خلاله يمكن تفسير الأحداث والوقائع ومقاربتها، ومن لا يستخدم هذا المنظور اليوم بات وكأنه يحيّد المتغيرات المترسخة على أرض الواقع بصلابة، لدرجة تجعل تحليلاته تكتسي صفة الانفصال عن الواقع.

ليس جديداً الحديث بمنطق طائفي في لبنان، فالإجماع في هذا البلد تأسس على معادلات طائفية تحكمت بإدارته، ولم يقف الأمر عند حد الدستور الذي شرّع الصيغة الطائفية، بل تم إخضاع جميع شؤون تصريف الأمور لتوافقات طائفية بين مراجع الطوائف في لبنان، وانتهى البلد إلى شكل من أشكال التحاصص، أو التملك العلني، في ظاهرة يمكن وصفها بـ"فدرلة" مؤسسات الدولة، وأحياناً عناصر الاقتصاد اللبناني.

ورغم إشكالية هذا النمط الإداري، وما سببه من إشكاليات وصراعات، إلا أنه بدا في لحظات كثيرة قابلا للتعايش معه، وإن كان ضمن الحدود الدنيا، إلى حين اصطدامه بمتغيرات داخلية وإقليمية، نتيجة اختلال توازن القوى الذي نشأ بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وصعود إيران قوّة إقليمية لها مشروع جيوسياسي، على حساب الجغرافية العربية، وهو مشروع شكّلت المتغيرات التي شهدتها البيئة العربية: ضعف النظام العربي، وسقوط نظام الحكم في العراق وحرب النظام السوري ضد شعبه، قيمة إضافية له ساعدت في تظهير فعاليته وتطوير أدواته في ظروف يمكن وصفها بالمريحة نسبياً لإيران.

صعود إيران قوّة إقليمية لها مشروع جيوسياسي، على حساب الجغرافية العربية، وهو مشروع شكّلت المتغيرات التي شهدتها البيئة العربية: ضعف النظام العربي، وسقوط نظام الحكم في العراق وحرب النظام السوري ضد شعبه، قيمة إضافية له ساعدت في تظهير فعاليته وتطوير أدواته في ظروف يمكن وصفها بالمريحة نسبياً لإيران

استهدفت حرب إيران، بشكل صريح، المكوّن السني في العراق وسوريا ولبنان، وذلك أمر طبيعي، إما بسبب التناقض المذهبي، أو لتقدير إيران أن إخضاع السنّة يشكّل العنصر الأساسي في تعبيد طريق مشروعها الجيوسياسي في المشرق العربي.

وفي الحالة اللبنانية، بدأت إيران مشروع إضعاف السنّة باكراً، عبر اغتيال رفيق الحريري، بالتوافق مع نظام الأسد، لتقدير الطرفين أن الحريري شخصية تحظى بإجماع سنّة لبنان، وقد يمتد تأثيره إلى سوريا، مع إدراك أن هذا النمط من الشخصيات لا يتوفر على الدوام، وبالتالي فإن قتله سيولد فراغاً في المحيط السنّي، ليس في لبنان فقط، وإنما في المشرق العربي، وخاصة وأن بشار الأسد كان تولى تجفيف البيئة السنية السورية ومنع ظهور أي شخصية لها وزن أو حيثية اجتماعية وسياسية.

في نفس الوقت، كانت إيران قد بدأت في العبث بالمكوّن السني في المشرق عبر دعم المتطرفين ليكونوا هم واجهة المشهد السني، من خلال استثمار إحساس سنّة المنطقة بالهوان بعد إسقاط نظام الحكم في العراق، وبحثهم عن صيغة يعيدون من خلالها توازنهم النفسي المفقود. وقد شهدت تلك المرحلة تفاصيل متفرقة ولكنها كانت في إطار منهجية مدروسة، سواء من خلال توطين بعض قادة القاعدة في إيران، أو فتح مراكز لتطويع الجهاديين في شمال سوريا، وبروز ظاهرة "أبو القعقاع" (محمود قول أقاسي)، الذي كان يدعو للجهاد علناً في مساجد حلب، ثم احتضان أبي مصعب الزرقاوي الذي كانت تجري له استقبالات ملكية في فروع أجهزة الأمن السورية.

كان الهدف من وراء هذا المخطط، بالإضافة إلى إفراغ الوسط السني في المشرق من أي قيادات متوازنة ومقبولة، إظهار السنة كطرف متطرف غير قابل للتعاطي سياسياً معه، وبالتالي تشريع أي فعل ضدهم، حتى لو كان بمستوى الإبادة، التي ستحصل بعد ذلك بشكل علني وممنهج في سوريا والعراق، ولكن هذه المرّة بمساعدة دولية وازنة، اشتركت فيها روسيا وأمريكا بذريعة محاربة التطرف في أحدث نسخه (داعش)؛ الذي لا يمكن فهم ظاهرته إلا عبر دمج تأثيرات السياسات الأمريكية والإيرانية ومخرجاتها في بلاد الرافدين.

ما حصل في لبنان، عبر انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية، واستنكاف سنة لبنان عن التفاعل السياسي، هو انعكاس لتاريخ من التنكيل الإيراني بسنّة المنطقة وشيطنتهم، واستفادت إيران من إمكانيات دول مثل العراق وسوريا في تنفيذ أجندتها وإلغاء الوجود السني أو جعله هامشيا جداً في أحسن الأحوال

حسناً، قد يقول البعض إن الأمور في سوريا كانت خارج هذه السردية، ولو لم تقم الثورة في سورية لما استطاع الأسد وإيران إحداث هذا الضرر بالأكثرية السنيّة السورية؟ الحقيقة أن سوريا كانت مندرجة بقوّة ضمن المخطط الإيراني، عبر السياسات التي اتبعها الأسد، والتي نتج عنها إضعاف الطبقة الوسطى إلى حد بعيد لصالح شبكات المحاسيب التي صنعها الأسد، وتهميش الأرياف وإفقارها، وتمييع طبقة رجال الدين وبروز ظاهرة الحسونية (المفتي أحمد حسون)، بالإضافة إلى وضع الأكثرية السنيّة تحت المجهر واختراقها الدائم بذريعة محاربة تنظيمات لم يسمع أحد بها من قبل مثل "جند الشام"، و"فتح الإسلام"، و"العائدون من العراق"، بالتزامن مع فتح بطن الأكثرية السنية للتشييع الإيراني جهاراً ونهاراً.

ما حصل في لبنان، عبر انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية، واستنكاف سنة لبنان عن التفاعل السياسي، هو انعكاس لتاريخ من التنكيل الإيراني بسنّة المنطقة وشيطنتهم، واستفادت إيران من إمكانيات دول مثل العراق وسوريا في تنفيذ أجندتها وإلغاء الوجود السني أو جعله هامشيا جداً في أحسن الأحوال.

المشكلة، أن الدول العربية، المحسوبة على أنها ظهير سنّة المشرق عنوة، اتبعت سياسات متخبطة، بل إن هذه السياسات ساهمت في إضعاف سنّة المشرق بدرجة كبيرة، فقد أظهرت جميعها عدم خبرة في إدارة هذا النوع من الصراعات، ليس المقصود الصراع الطائفي، بل مواجهة المشروع الجيوسياسي الإيراني، وأبرزت قدراً كبيراً من التفكك وحتى الصراع في ما بينها، فيما كانت إيران تقول لسنّة المشرق "عدي برجالك عدي من الأقرع للمصدي". وذهب بعض هذه الدول (مصر على سبيل المثال) إلى الحياد، والاكتفاء برؤية إيران، وهي تلتهم سنّة المشرق العربي وتنكل بهم، ثم ليخرج النظام المصري بنظرية أن إعادة بشار الأسد للجامعة العربية ضرورة قومية!

twitter.com/ghazidahman1