كتاب عربي 21

المواطنة الموؤودة.. المواطنة من جديد (90)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من أخطر الأمور التي يمكن الغوص لاستخراج معانيها ومكنوناتها، هو ما تعلق بتصور السلطة المستبدة لمواطنيها وعالم إنسانها، هذه الصورة التي يكوّنها المستبد هي التي تشكل في حقيقة الأمر جوهر الاستخفاف والاستهانة بالمواطن والمواطنة والإنسان.

ففي مؤتمر صحفي لوزير خارجية انقلاب نظام الثالث من تموز/ يوليو المستبد مع وزيرة الخارجية الألمانية؛ سُئلت الأخيرة عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر فما كان منها إلا أن قالت وعلى الفور: "الأمور التي تتعلق بشراء الأسلحة وخلافه من هذا النظام ستتعرض لقيود طبقا لملف حقوق الإنسان، ولطالما ظلت على هذا النحو"، فما كان من وزير خارجية الانقلاب الذي تململ وأظهر بعضا من حيرته في أن يكون ذلك الكلام مباشرا؛ إلا أن أكد أن العلاقات بين مصر والدول الأخرى لا تتعرض لما أسماها بالمشروطية، وأن النظام المصري إنما يقوم بأدواره في منع الهجرة غير الشرعية.

هكذا لم يستطع هذا الوزير ممثلا لمنظومته المستبدة إلا أن يلوذ بتوصيفات يحذر فيها الدول الغربية تحذيرا مبطنا، وكأن لسان حاله يقول "نحن نمنع هؤلاء عنكم"، وكأن الأمر الذي يتعلق بتصور المنظومة لمواطنيها أنهم مجموعة من المجرمين والمغامرين الذين يحاولون الذهاب إلى بلاد الغرب، وأن النظام يشكل حراسة الحدود في سياق يُصور المواطن على هذا النحو ضمن تحذيراته المقيتة، بدعوى الأمن الأوروبي والأمن الغربي، حتى أن بوقا من أبواقهم خرج يؤكد هذه المعاني حينما تفوه غاضبا ضجِرا من تلك التصريحات المتكررة والمستنكرة لحال حقوق الإنسان في مصر، والتي تأتي من دول غربية مختلفة ومن هيئات دولية متعددة، فيؤكد أن مصر هي التي تقوم بحماية أمن أوروبا والعالم.
هكذا لم يستطع هذا الوزير ممثلا لمنظومته المستبدة إلا أن يلوذ بتوصيفات يحذر فيها الدول الغربية تحذيرا مبطنا، وكأن لسان حاله يقول "نحن نمنع هؤلاء عنكم"، وكأن الأمر الذي يتعلق بتصور المنظومة لمواطنيها أنهم مجموعة من المجرمين والمغامرين الذين يحاولون الذهاب إلى بلاد الغرب، وأن النظام يشكل حراسة الحدود

هذا هو التصور الدفين الذين يلقيه هؤلاء في وجه الأوروبيين والغربيين مؤكدين لهم أنهم يقوموا بهذا الدور الجليل في خدمتهم بمنع هؤلاء من الإغارة عبر الهجرة غير الشرعية على بلادهم، ومن ثم فوجب على هؤلاء أن يتوقفوا عن الاتهام أو الشكوى، بل ولسان حالهم يقول إن "عليهم أن يشعروا بالامتنان حيال هذا النظام المستبد الذي يسهر على حمايتهم ليل نهار من حفنة المواطنين المجرمين في بلادنا".

وهنا تصفحت وسائل التواصل الاجتماعي وفُجعت بالتعامل الفاجر والممنهج لهؤلاء مع المواطن، وقد وضعوه تحت الاعتقال "داخل السجون.. بره القانون"، فوجدت العديد من المشاهد الفاضحة الفاجرة لمنظومة الاستبداد التي تكشف حال الوطن والمواطنين. فهذا شيخ في السبعين اعتقلوه لأنه قال كلاما لا يرضيهم يعبر فيه عن رأيه في تلك المنظومة التي اغتصبت السياسة وقتلت كل المعاني التي تتعلق بالحرية والعدالة، فما كان منهم إلا أن حبسوه احتياطيا، وقد كان مرشحا للرئاسة في الانتخابات الرئاسية التي أعقبت ثورة يناير.

لا يجدون من حيلة إلا بتلفيق قضايا واختراع اتهامات، فهذا صنف من المواطنين المجرمين في عرفهم؛ لا يمنعونه فحسب بحبسه داخل الوطن، ولكن قرروا أن يعتقلوه داخل سجونهم وتدويره بين قضايا إلى ما لا نهاية. ففي كل مرة يجدد حبسه، بالإضافة إلى الإهمال المتعمد طبيا وصحيا، كسلوك مألوف وكعقوبة إضافية باعتبار ذلك أمرا مألوفا، على الرغم من حالته الصحية ومعاناته من العديد من الأمراض التي تهدد حياته.

وها هو صحفي شاب يمر بحالة نفسية شديدة امتنع فيها عن الكلام ورفض المشاركة في جنازة والدته، وبحسب محاميه فإن موقفه هذا كان نتاجا لانقطاع الزيارات عنه رغم حصوله على قرارات النيابة اللازمة لذلك. إن موقفه يستدعي التأمل: كيف لشاب أن يرفض الخروج للمشاركة في جنازة والدته التي تمت الموافقة عليها بعد مطالبات كثيرة؟ إلا أن الشاب قرر أن يرفض لأنهم لم يسمحوا له بزيارتها له في حياتها، عسى أن تصلهم رسالته بعدم رحمتهم، بعد أن اعتبروه مجرما خطيرا لا يهدد أمن مصر فحسب بل يهدد أمن العالم بأسره، ولذلك فقد وضعوه في غياهب سجن مشدد وفي زنزانة انفرادية باعتباره من عتاة المجرمين الذين عبروا عن رأيهم يوما ما، فلا يعامل بأدنى حق من حقوق الإنسانية أو حدودها، ويمنون عليه بكل هذه القسوة حتى يدعوه إلى مشاركته في دفن أمه، وقد منعوه مع سبق إصرار وترصد من أن يراها أو تراه ولو من وراء حُجز، نعم لقد دفنوه وطلبوا من مدفون أن يدفن أمه التي فارقت الحياة، وأدوه حيا بلا رحمة.

وها هم ثلاثة من الشباب المسجونين الذين طالتهم كل أشكال التعذيب النفسي والجسدي قد أعلنوا إضرابهم عن الطعام لما يلاقونه من أهوال داخل زنازينهم في محسبهم، والنظام لا يهتم، نعم لا يقوم إلا بتشديد الحراسة ويأمرهم بأن يتراجعوا عن إضرابهم.
ها هي فتاة ارتبطت بأحد الشباب وقد خطبها وهي في بداية العشرينات من عمرها، ثم اعتقل في سجون هذا النظام الفاجر. وبعد أن صدر ضده حكم بخمس سنوات تم تدويره في قضية أخرى من المتوقع أن يظل فيها سنوات أخرى، وقد مضى على اعتقاله ما يقرب من السنوات السبع والفتاة على أبواب الثلاثين من العمر وتواجه ضغوطا

وها هو أستاذ جامعي مبرز في العلوم الإسلامية والشرعية يكتب رسالته مكررا إياها من داخل سجنه، يتحدث فيها كيف يتعامل هؤلاء مع الذين اعتقلوا لفترات طويلة لا يرون فيها ضوء ولا شمس ويضعون لهم فتاتا من الطعام، ويحاصرونهم داخل زنازينهم كعتاة المجرمين الذين يهددون أمن العالم.

كل هذا الفُجر في التعامل مع المعتقلين من قبل نظام فاشي مسّ أعصاب وقيم المجتمع في مقتل، وجعله في حالة من الاختناق الرهيب في سجون مصر المحبوسة.. فها هي فتاة ارتبطت بأحد الشباب وقد خطبها وهي في بداية العشرينات من عمرها، ثم اعتقل في سجون هذا النظام الفاجر. وبعد أن صدر ضده حكم بخمس سنوات تم تدويره في قضية أخرى من المتوقع أن يظل فيها سنوات أخرى، وقد مضى على اعتقاله ما يقرب من السنوات السبع والفتاة على أبواب الثلاثين من العمر وتواجه ضغوطا من كل حدب وصوب، ولعل أعتى هذه الضغوط قسوة هو انعدام الأمل وانسداد الأفق فجعلها تفك ارتباطها.

أنواع من "المواطنة الموؤودة" تتخذ أشكالا من الوأد المعنوي لكل هؤلاء، والتي تتحول من بعد إلى أحوال من القتل المادي لا يتورع هؤلاء في ارتكابها، فتأتي إلى مسامعنا كل بضعة أيام بأن أحدهم قد قضي في محبسه، ولعل آخرهم رجل الأعمال الذي فارق الحياة وهو في سن الأربعين. وقد تجاوز عدد من فقدوا حياتهم منذ الانقلاب حتى اليوم 1200 مسجون.
هذا هو منطق النظام الفاجر الذي لا يهمه في شرعنة نظامه إلا نظرة الخارج له وخدمته وحراسة أمنه بحبس هؤلاء من أجلهم، وأن استقرار أنظمة استبدادهم أمان لهم.. هكذا خطابهم الملعون وتبريرهم المزعوم

ليست كل هذه الأمور إلا مشاهد طفحت بها وسائل التواصل الاجتماعي لتؤكد على فهم هؤلاء للأمن الذي يصدّرونه للخارج، وأنهم يمنعون هذه النماذج من المجرمين الذين يريدون أن ينالوا من هؤلاء الذين يقومون على حراستهم وخدمتهم.

هذا هو منطق النظام الفاجر الذي لا يهمه في شرعنة نظامه إلا نظرة الخارج له وخدمته وحراسة أمنه بحبس هؤلاء من أجلهم، وأن استقرار أنظمة استبدادهم أمان لهم.. هكذا خطابهم الملعون وتبريرهم المزعوم، وهو ما حدا بأحد الناشطين المفرج عنه حديثا بعد أن أرغموه على التخلي عن جنسيته المصرية للقول بأن ما يحدث لكل هؤلاء المعتقلين يتم بمساعدة من قضاء أصبح أداة في يد الطاغية، مؤكدا أن القضاء أيام مبارك كان يحتفظ بهامش من الاستقلالية بخلاف الآن وما يجري في هذه الأيام في مصر التي هي أشبه بتكتيكات عصابات وليست دولة.. مواطنة مفقودة معدومة موؤودة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
0
التعليقات (0)

خبر عاجل