أرمقُ البعيد، فأجِدُهُ يبتسم لي، أيعقل أن تبتسم الوجوه المُتعبة؟ هو ابتسم.
ركضتُ إليه مُتناسياً الحصاة التي تجرح أقدامي، والرمل الذي يتحرك أسفل أصابعي فيُعيقني، والغبار الذي ازدحم في حنجرتي، كلما اقتربتُ منه ازداد وسامةً وبهاءً. انقطعت أنفاسي ولم أصل، تقدّمَ نحوي، قبّل جبيني، ثم لوّح بيديه لواحدٍ وعشرين رجلاً متناثرين في أقصى نقطة عني.
إنهم أشبه بخرز مسبحةٍ مكيّةٍ قطِعَت وتبعثرت حبات اليُسرِ منها على الأرض، بدأوا بالاقتراب من بعضهم البعض، كانوا يحدّقون بي من بعيد، كما لو أنني حصان عربي أصيل وكلٌّ منهم عنترة، يدنون مني خطوة وينأى عني هو خطوة أخرى. كنت ألحقُ به فيتبعونني، كانت خطواته أسرع من خطواتنا، لقد أصبحوا بجانبي، إننا كالبنيان المرصوص، حين اقتربوا شَعَرتُ وكأن وجوههم مألوفة نوعاً ما، لكن شيئاً من الضيق غيّرها، بعضهم كانت وجوههم مُنيرة كقنديلٍ في نفقٍ مُعتِم، والبعض الآخر كان حالكاً كليالِ انتظارٍ خمس..
تأملنا بعضنا، وتفحّص كلٌّ منّا ملامِحَ الآخر، ملامحنا التي تبدو معروفة وليست محفوظة.
علا أنين الطفل قليلاً، نظرنا إليه وكانت الندبات تزيّن وجهه فصار كالختم المقدس على رسائل عثمانية قديمة. ركضنا نحوه حتى وصلنا إليه، كُل منا يقف مقابل الآخر مشكّلين دائرة واحدة، نرمق أطرافه، نتحسس ثنايا محياه، نقبّلُ جروحه، وبعضنا يمسح على قلبه "أن بسم الله على روحك حتى تطمئِن".
خرجت من بين أكتافه أجنحة حملته إلى السماء بمشهدٍ رهيب، وتلاشى مبتسماً، أيُعقَلُ أن يبتسم الراحل قط؟ هو ابتسم.
إلا أننا نبكي، نُواحنا ونحيبُنا يملأ المكان، وأيادينا تشدّ على قلوبنا وكأنها هي من خرجت من أجسادنا، كان كل واحد منا يضغط بيدٍ على صدره وباليد الأخرى يمسح دمع من بجانبه، احتضننا بعضنا كنوعٍ من الحنو والتضامن والوِحدة لعلّها "وِحدة الشعور".
بدأنا نعرف بعضنا، نحن من تفرّقنا قبل سنوات ولم نجتمع، أيعقل أن تُنسينا الأيام أيّامنا؟ نحن عائلة واحدة كنا نجلس بجانب بعضنا حول مائدة طعام واحدة تتسع لاثنين وعشرين رجلاً على اختلافنا، وتحمل ضحكاتنا ودموعنا. كنا لَبِنات ملتصقة كوّنت قبل سنين قلاعاً ضخمة حصينة لا يخترقها عدو ولا جار، نحن من فرّقتنا الجراح والأحزان والأزمان، نحن من نجتمع لأجل مبسمِ طفل ومحنة صبي؛ لربما لأننا اشتقنا إلينا، فشيء من الحنين يجعلنا نَشد على أيادي بعضنا ونهمِسُ: نحن هنا، نحنُ على قلب رجلٍ واحد.
أيُعقل أن نكون هكذا عمراً كاملاً؟ ألا ليتَ مجد عائلتنا يعود يوماً.
رحم الله
ريان، الذي علمنا درساً لم نكن لنتعلمه ولو جُرِحنا كل يوم، ولو هُدِمَت بيوتنا وانتفضت موائدنا، ولا حتى إن خاصم الواحد منا الآخر سنين.
لكن الحقيقة أننا ما كدنا نودعه حتى سلك كل واحد فينا سبيله، وعاد كلٌّ منا ليحارب بقضيته كجنديّ أحد.
رحمك الله يا ريّان، وإن مِتّ صائماً فريّاناً يُدخلك إلى الجنان، جنان الصائمين.