سؤال المرجعية
يختصر فيلم "أصحاب ولا أعزّ" الكثير من النقاش حول القيم المرجعيّة للعمل الفنيّ، فالمقولة السائدة في الأوساط الفنيّة، ترفض إخضاع العمل الفنيّ لأيّ قيم من خارج العمل نفسه، فالعمل هو الذي يسوق نفسه، وفي أحسن الأحوال، حينما تُثار اعتراضات حول مشاهد العري والجنس في السينما العربيّة، تحضر "الضرورة الدراميّة" لتبرير تلك المشاهد، وهو تبرير يتوخّى التغطّي بالتبرّؤ الضمنيّ من الابتذال، أمام نقد المجتمع المحافظ، مما يجعله تبريراً محافظاً بدوره، أمام الذهاب بـ"الفن مرجعيّة الفن" إلى أقصى الأمدية المتجرّدة من الحدود المرجعيّة.
تفترض المقولة التي تزعم أنّ الفنّ مرجعيّة نفسه؛ أنّ الفنّ مجرّد عن أيّ سياقات حاكمة له، (بالتأكيد ليس الحديث الآن عن الجوانب التقنيّة)، وهي تغفل بذلك النظر إلى تاريخ الفنّ، وهل نشأت معه مرجعيّاته من بلد المنشأ، أم هي تنبثق عنه من داخله دون أيّ تأثّر بالسياقات التي تولّد فيها؟ هل هذا النزوع الجارف في الأعمال الفنيّة، للتخلّص من قيمة الحياء مثلاً، وليد الفنّ نفسه، أم وليد البيئات التي لا تقيم اعتباراً للحياء، وهي البيئات التي ظهرت فيها ابتداء الأعمال الفنيّة التمثيليّة بأصنافها المتنوّعة؟
تفترض المقولة التي تزعم أنّ الفنّ مرجعيّة نفسه؛ أنّ الفنّ مجرّد عن أيّ سياقات حاكمة له، (بالتأكيد ليس الحديث الآن عن الجوانب التقنيّة)، وهي تغفل بذلك النظر إلى تاريخ الفنّ، وهل نشأت معه مرجعيّاته من بلد المنشأ، أم هي تنبثق عنه من داخله دون أيّ تأثّر بالسياقات التي تولّد فيها؟
فيلم "أصحاب ولا أعزّ"، يعطي الإجابة على ذلك بوضوح ومباشرة، كونه نسخة معرّبة عن فيلم إيطاليّ، مما يجعله نقلاً لسجالات مجتمع ما، بأخلاق ذلك المجتمع، أو نقلاً لسجالات نخبة من مجتمع آخر لها همومها الخاصّة بها، وذلك يعني أنّ هذا الفيلم حمل مرجعيّته من بلد منشئه، أو يحمل مرجعيّته بقوّة منتجه، وهي شبكة "نتفليكس"، التي تملك أجندة "رساليّة" صريحة ومكشوفة، تضادّ تماماً قيماً جوهريّة عميقة في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة. والحاصل، أن صناع السينما في بلادنا العربيّة يغالطون أنفسهم، حينما يرفضون قيماً مرجعيّة لأعمالهم الفنيّة من عمق مجتمعاتهم، وذلك لأنّهم، بوعي أو بدونه، يحتكمون لمرجيّعات البلد المنشأ للفنون التثميليّة.
ليست القضيّة هنا في اقتباس العمل الفنيّ العربيّ من آخر غير عربيّ، فبالرغم مما يثيره ذلك من أسئلة حول القصور الإبداعيّ، فإنّ الإبداع قد يتجلّى في القدرة على التبييء، بتمصير العمل أو تعريبه، لا من حيث اللهجة أو اللغة، بل من حيث الإقناع في اتصاله بقضايا مجتمعاتنا، وعلاقته بها زماناً ومكاناً، وهو أمر انعدم تماماً في الفيلم المذكور، الذي من جهة بدا وكأنه التزام حرفيّ بالنسخة الأصليّة، مما حصر سؤال الإبداع في القدرات التمثيليّة للممثّلين، الذين آل بهم الأمر إلى أن يكونوا مجرّد قنوات لتمرير مقولات النسخة الأصليّة غير العربيّة إلى العرب.
ومن جهة أخرى بدا وكأنّه فانتازيا تهويميّة لا سياق لها، فباستثناء جنسيّات أبطال الفيلم كما قدّمها الفيلم، مصريّة ولبنانيّة، ومكان القصّة، لبنان، لا شيء آخر يرتبط بالمكان والزمان، سوى ما يمكن قوله عن موقع التكنولوجيا (أجهزة الاتصال ومواقع التواصل) من أزمات الإنسان المعاصر، وهو قول لا يتناول موقع التكنولوجيا، اقتصاديّاً أو سياسيّاً، في بلاد أبطال الفيلم، ولو على نحو عابر، بل يقتصر على موقع التكنولوجيا في العلاقات الجنسيّة بين البشر.
لو تجاوزنا عن المقولة التي يرغب الفيلم في تقديمها، وهو ينطوي على مقولة بالفعل، وسلّمنا بأنّ غرضه فرجويّ صرف بهدف التسلية، وهي واحدة من وظائف الفنّ، فإنّ المشكلة حينئذ في سياق أوسع، وهو انحطاط الفنّ، لا من حيث أنّ بعض الأعمال الفنّيّة لا تقصد شيئاً أكثر من التسلية، فهذا مفهوم ما دامت تلك الأعمال أفراداً من جملة فنيّة ضخمة ثريّة ومتنوّعة، ولكن المشكلة باتت في كون الفنّ لا يقوى على تقديم شيء آخر، غير فرجويّ، أو غير محكوم لأجندات صنّاعه، من جهات سلطويّة أو رأسماليّة متحالفة معها بشكل أو بآخر.
المشكلة باتت في كون الفنّ لا يقوى على تقديم شيء آخر، غير فرجويّ، أو غير محكوم لأجندات صنّاعه، من جهات سلطويّة أو رأسماليّة متحالفة معها بشكل أو بآخر
الإبداع والمزاعم الزائفة
في المشرق العربيّ، باتت الأجندة السلطويّة الراهنة مناقضة لأهمّ متطلّبات الإبداع، كما يزعمها المبدعون، أي الحرّية، وأن تُترك العمليّة الإبداعيّة لإنتاج قيمها بما يناسب متطلّباتها الفنّيّة والتقنيّة. فمن بعد الثورات العربية، تكاد تنعدم أيّ مساحة للحرّية من شأنها أن تدفع نحو نقد جدّيّ للسلطات، في مستويات عملها كافّة، وبالتأكيد السياسيّة منها، بيد أنّ الأخطر في ذلك، أنّ هذه السلطات لا تكتفي باستخدام أدوات القوّة للسماح والمنع، بل هي التي تشرف مباشرة على العملية الإنتاجيّة، والصناعة الفنّيّة برمّتها، فشركات الإنتاج السينيمائي والتلفزيوني في مصر، والقنوات التلفزيونية، ومنصات البثّ على شبكة الإنترنت، تعود ملكيّتها، في حقيقة الأمر، لأجهزة سلطويّة استخباراتيّة، أو تخضع للخطط التي ترسمها تلك الأجهزة.
لا يختلف الأمر كثيراً في الخليج، الذي تهيمن المملكة العربية السعودية على سوق الترفيه فيه، لا في الخليج وحده، بل ومن خلاله على العالم العربيّ، ليس فقط من خلال "هيئة الترفيه" التي تفتح سوقاً تشغيلية ضخمة للفنّانين العرب، بل ومن خلال القدرات الشرائيّة لأهمّ شبكة ترفيهيّة عربيّة، بما تملكه من قنوات تلفزيونيّة ومنصّة إنترنت، أي شبكة MBC، أمّا بقيّة المنصات فلا تبتعد عن هذا الفلك. ومن يدخل حديثاً على خطّ المنافسة من دول خليجيّة أخرى، فهو يعتمد الخطّ الترفيهي نفسه، بالأنماط التي قد تناقض القيم العربيّة والإسلاميّة، وإن كان قد يخالف في الأطروحات السياسيّة التي يرغب في تمريرها.
ومع انهيار الدراما السوريّة، فقد صار الفنان السوري محكوماً لرأس المال الخليجيّ أو اللبنانيّ (الذي لا يقدّم شيئاً يتجاوز الترفيه)، أو مضطراً لتملّق السلطات في بلده.
بالنّظر إلى هذا الواقع، لا يمكن للوسط الفنّيّ في هذه الرقعة المشرقيّة من العالم العربيّ، أن يتحدّث عن الحرّية الإبداعيّة، أو عن تحرّر الفنّ من حيث هو فنّ من أيّ قيمة مرجعيّة، لأنّه باختصار محكوم إلى المرجعيّات السلطويّة الاستبداديّة والاستخباراتيّة، أو لمرجيعات رأس المال المحلّيّة المتحالفة معها، أو رأس المال العابر للقارّات بقيمه ورسائله وأجنداته. فحتى التسلية الفرجويّة الصرفة مندرجة في خدمة تلك الأجندات، طالما أنّها لا تتناول قضايا العربيّ الحيّة ولا أولوياته الراهنة، وتنحطّ بالفنّ ليتخلّى عن دوره النقديّ، فلماذا بعد ذلك كلّه ينبغي التسليم بالأكاذيب حول الحرّيّة الإبداعيّة في حين أنها لا تتجرّأ إلا على المعارضين السياسيين، أو على القيم المجتمعيّة، أو على المعتقدات الدينيّة؟!
مساهمة النقد المحافظ
يمكن تفنيد العديد من المقولات الرائجة في الوسط الفنّيّ، والتي تُرفع عادة في وجه "النقد المحافظ"، وبيان ما لدى أصحابها ومن يدعمهم من مثقفين، من تناقض، (مثلاً رسم كاريكاتوري يسخر من الزعيم السياسيّ أو فيلم يمسّ دعاية وطنيّة، جريمة، لكنّه حرّيّة إبداعيّة لو تطاول على عقيدة دينيّة!)، وما فيها من أكاذيب، كالزعم أنّها تعكس الواقع الاجتماعي، في حين أنّها تغيّب التسلّط السياسي، أو تغيّب الحضور الاجتماعي لمظاهر مناقضة للرائج في الوسط الفنّيّ (مثلاً هل عدد المحجّبات في الأعمال الفنّيّة يكافئ عددهنّ في المجتمع؟!).
يضاف إلى هذه التناقضات الفجّة، المطالبة بالحرّيّة الإبداعيّة، التي باتت لا تتطاول إلى على حائطيّ الدين والجنس، ثمّ مصادرة حقّ الجمهور في نقدها! وإذا كان الفنان يدافع عن "لقمة عيشه"، والمثقف قد يسقط في فخ العمي الأيديولوجي، فإنّ من السذاجة المفرطة الدفاع عن عملية إبداعيّة تدار في مساحة مخنوقة بالحضور الكثيف للأمن والسلطات المستبدّة ورأس المال المنفصل عن قضايا المجتمع
يمكن أن يضاف إلى هذه التناقضات الفجّة، المطالبة بالحرّيّة الإبداعيّة، التي باتت لا تتطاول إلى على حائطيّ الدين والجنس، ثمّ مصادرة حقّ الجمهور في نقدها! وإذا كان الفنان يدافع عن "لقمة عيشه"، والمثقف قد يسقط في فخ العمي الأيديولوجي، فإنّ من السذاجة المفرطة الدفاع عن عملية إبداعيّة تدار في مساحة مخنوقة بالحضور الكثيف للأمن والسلطات المستبدّة ورأس المال المنفصل عن قضايا المجتمع، وعدم ملاحظة علاقات القوّة والنفوذ في هذه العملية، بما يجعل القدرة على المنافسة مستحيلة، وبما يجعل الدعوة لتغيير القناة أو إلغاء الاشتراك غفلة محضة عن محدوديّة خيارات الفرد العربيّ.
أكثر من ذلك، يمكن القول إنّ "النقد المحافظ" للأعمال الفنيّة، هو مساهمة في تحريرها من هذا الاختناق، وسعي لتوسيع دوائر اشتغالها، ولنشلها من المستنقع الذي انحطّت فيه. وهنا لا بدّ من القول إنّ السؤال الملحّ في عالمنا العربي هو سؤال السياسة، وهو ما تسعى السلطات ورأس المال لتغييبه بالهيمنة المطبقة على الأعمال الفنّيّة، وذلك في حين أنه لا يمكن إدارة أيّ حوار جدّيّ حول أسئلة الثقافة والدين والمجتمع في وسط مخنوق بالاستبداد السياسيّ!
twitter.com/sariorabi