كتاب عربي 21

احتجاجات كازاخستان.. حسابات روسيا وتركيا

علي باكير
1300x600
1300x600

شهدت كازاخستان مع بداية العام 2022 أزمة داخلية خطيرة أنهت أسطورة "الدولة الأكثر استقراراً" في آسيا الوسطى خلال العقود الثلاثة الماضية، وذلك على خلفية تحوّل مظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود وغلاء الأسعار إلى انتفاضة ضد الحكومة والنظام السياسي بشكل سريع وغير متوقع. وتوسعت دائرة الاحتجاجات ومطالبها وصولاً إلى المطالبة بإسقاط النظام. وقد استولى المتظاهرون الغاضبون على بعض مؤسسات الدولة والمنشآت الحيوية، وحصلت اشتباكات أدت إلى سقوط قتلى في صفوف المحتجّين وقوات الأمن. 

وتحظى كازاخستان بأهمّية كبرى في آسيا الوسطى لاعتبارات متعدّدة أبرزها الحجم والموقع والموارد الطبيعية. تمتلك البلاد أكبر احتياطي من النفط المؤكد في منطقة بحر قزوين، وتنتج ما يزيد على المليون برميل من النفط يومياً. وبالرغم من أنّها تاسع أكبر دولة في العالم وأكبر دولة غير ساحلية في العالم، إلاّ أنّ عدد سكّانها لا يتجاوز 19 مليون نسمة فقط. كازاخستان مهمّة من الناحية الجيو ـ سياسية والأمنيّة لموسكو ومن الناحية الاقتصادية والجيو ـ سياسية لتركيا كذلك. يبلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة وكازاخستان حولي 3 مليارات ونيّف وهو رقم متواضع بالنسبة الى قدرات البلدين، لكن انقرة تطمح الى رفع الرقم الى 10 مليارات دولار في المرحلة القادمة. 
 
تحاول كازاخستان الموازنة في سياساتها الخارجية إلا أنّ الاحداث الأخيرة أثبتت أنّها تعتمد على موسكو بشكل أساسي لاسيما من الناحية الأمنية. اذ ما أن شعر رئيس البلاد قاسم توكاييف بخروج الأمور عن السيطرة مع توسع الاحتجاجات حتى سارع الى مطالبة "منظّمة معاهدة الامن الجماعي" ـ وهي منظمة مقرها موسكو وتضم خمسا من دول الاتحاد السوفيتي السابقة (أرمينيا، طاجكستان، كازاخستان، قيرغيزستان، بيلاروسيا) إلى جانب روسيا- بالتدخل. تعتبر المنظمة مظلّة روسية لإحتواء دول الاتحاد السوفيتي السابق ومنعها من الانضمام الى احلاف أخرى، كما تهدف الى توسيع نفوذ موسكو في مناطق الاتحاد السوفيتي السابقة بشكل شرعي. 

بناءً على الطلب الكازاخستاني، أرسلت روسيا قوات تدخل سريع تحت عنوان "قوات حفظ السلام" إلى البلاد، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تفعيل مثل هذا الإجراء منذ انشاء المنظمة في العام 1992. وبحسب البيان الصادر عن رئيس الوزراء الأرمني الذي تترأس بلاده المنظمة حالياً، فإنّ الإجراء مؤقت ويهدف إلى استعادة الاستقرار على حدّ قوله.

بالنسبة إلى روسيا، لا يوجد أدنى شك بأنّ أي تطورات تتعلّق بمظاهرات مناوئة للحكم هي تطورات غير محمودة. سرعة الأحداث بالإضافة إلى تحوّلها من مظاهرات ضد الغلاء إلى انتفاضة ضد النظام السياسي أمر يخيف موسكو. مكمن الخوف هو أنّه إذا كانت الإطاحة بالنظام في مظاهرات شعبية قابلة للتحقق في دولة مثل كازاخستان لطالما قيل أنّها الأكثر استقراراً وأمناً، فهذا يعني أنّ احتمالات حصول مثل هذه الأحداث في محيط روسيا الجغرافي المباشر، لا بل في روسيا نفسها تبقى واردة.  

اتهام المتظاهرين بتلقي تدريبات في الخارج أو العمل على تنفيذ أجندة خارجية هو أمر تقليدي بالنسبة إلى روسيا في مثل هذه الحالات. يتناغم ذلك أيضاً مع الترويج لنظرية المؤامرة ومفادها أنّ الغرب يقف خلف مثل هذه الأحداث لتقويض أمن روسيا. لكن أمام هذا الوضع، فإن لدى روسيا خيارين، إمّا التدخّل، أو عدم التدخّل. لا شك أنّ تدخل روسيا عسكرياً في الأزمة الكازاخستانية يحمّلها أعباء إضافية، لكنّ عدم تدخلّها يحمل معه مخاطر أكبر من وجهة نظر موسكو. 

مبدئياً، يعزّز التدخل الروسي من دور موسكو الأمني في محيطها الإقليمي. في نهاية المطاف، الأنظمة الديكتاتورية تبحث عمّن يضمن لها أمنها، ولطالما سوّقت موسكو لهذا الدور من خلال نماذج مختلفة آخرها النموذج السوري. علاوة على ذلك، فإنّ الخلل في ميزان القوى بين روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة يجعل إمكانية اعتماد أي من هذه الدول سياسة أمنيّة مستقلة عن الحسابات الروسية مخاطرة عالية.

لسوء حظ تركيا، فإن هذه الاحداث جاءت في توقيت غير مناسب على الإطلاق فيما يتعلق بجهودها للنهوض بدول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية. يذكّرنا هذا المشهد بالثورات العربية التي جاءت في توقيت كانت فيه تركيا تصعد بشكل سلس وسريع على المسرح الإقليمي قبل ان يتغيّر الوضع تماماً مع إندلاع الثورات العربية. 

أولى التحديات التي يفرضها المشهد في كازاخستان على أنقرة هو بلورة موقف من الأحداث، وأعتقد أنّ الكثير من الدول تعلّمت خلال السنوات العشر الماضية ألاّ تستعجل في تسجيل المواقف. من الواضح من خلال البيانات التي أصدرتها الخارجية التركية أنّ هناك محاولة للموازنة بين الموقف الشعبي والرسمي. يضمن ذلك لأنقرة القدرة على المناورة الدبلوماسية، لكنّه لا يقدّم في نهاية المطاف ما يبحث النظام الكازاخستاني عنه.

 

لسوء حظ تركيا، فإن هذه الاحداث جاءت في توقيت غير مناسب على الإطلاق فيما يتعلق بجهودها للنهوض بدول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية. يذكّرنا هذا المشهد بالثورات العربية التي جاءت في توقيت كانت فيه تركيا تصعد بشكل سلس وسريع على المسرح الإقليمي قبل ان يتغيّر الوضع تماماً مع إندلاع الثورات العربية.

 

 


التحدّي الثاني بالنسبة إلى أنقرة هو إمكانية أن تقوَض هذه التطورات من التعاون بين دول منظمة الدول التركية لاسيما من الناحية الأمنيّة. على سبيل، عندما وقعت الازمة سارعت كازاخستان الى طلب المساعدة من موسكو بدلاً من منظمة الدول التركية التي تعتبر هي عضواً فيها أيضاً. هذا مؤشر على تصوّرات كازاخستان ومفادها انّ التدخل العسكري الحاسم لصالح النظام سيأتي من موسكو وليس من أي لاعب آخر. يشكّل قرار منظمة معاهدة الأمن الجماعي معضلة لبعض الدول التركية في آسيا الوسطى، فعلى سبيل المثال تتشارك كازاخستان وقيرغيزستان العضوية في هذه المنظمة وفي منظمة الدول التركية أيضاً، وهذا يعني أنّ بعض الدول في منظمة الدول التركية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار نفوذ موسكو الأمني، وهو ما قد يؤثّر على دورها سلباً في منظمة الدول التركية. 

التحدي الثالث يرتبط بما سبق. خلال السنوات القليلة الماضية، استطاعت تركيا أن تحقّق العديد من النقاط على حساب موسكو في القوقاز وآسيا الوسطى، وقد استفادت من هذه المكاسب لتعطي زخماً لجهودها في إحياء العالم التركي سياسياً وإقتصادياً. كانت أنقرة تأمل أن تستفيد من الناحية الأمنية من خلال تسويق منتجاتها او خبراتها في هذا المجال، وقد نجحت مؤخراً بالفعل في التوصل الى عدّة اتفاقات عسكرية مع دول آسيا الوسطى. لكن في نهاية المطاف، إذا كان المطلوب هو بندقية لقتل الشعب، فإنّ الجانب التركي لا يستطيع تقديم ذلك بخلاف روسيا التي لا مشكلة لديها في هذا الصدد، وهو ما يعطي الأخيرة أفضلية خاصّة عندما تكون الأنظمة مُهدّدة.

هناك من يعتقد كذلك أنّه من الممكن أن ما جرى في كازاخستان قد يحدث في أي من الدول التركية الأخرى بما في ذلك تركيا التي تشهد تحفيزاً من قبل المعارضة باستخدام الشارع كورقة ضغوط أو انخفاض سعر عملة الصرف وارتفاع نسبة التضخم. لكن بغض النظر عن ما إذا كان هذا السيناريو قابلاً للتطبيق، فإنّ الأحداث الأخيرة في كازاخستان أعطت من دون شك موسكو نقطة إضافية في التنافس الجاري مع تركيا في المنطقة.


التعليقات (1)
محلل سياسي متواضع
السبت، 08-01-2022 05:42 م
حين انهار الاتحاد السوفيتي ، قال ريتشارد نيكسون رئيس أمريكا المعزول – بسبب فساده في الحكم- قولته الشهيرة ( لقد تخلصنا من الشيوعية ، و لم يبق لنا عدو سوى الإسلام) و أعلن في عنوان كتابه "نصر بلا حرب 1999 " انتصار أمريكا على جميع منافسيها من الدول الكبرى نهائياً من خلال تحجيمهم "أو تقليص أحجامهم" و كان المشهد في ذلك العام يتكون من (بريطانيا و فرنسا اللتان صارتا تسيران في فلك أمريكا بعد فشلهما في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، روسيا الاتحادية التي يرأسها السكير بوريس يلتسين بتوجيه المافيا ، و الصين المنشغلة في البناء الاقتصادي) . حاكم العراق الأمريكي بول بريمر ، بعد احتلال أمريكا لذلك البلد عام 2003 ، سأله أحد المسلمين علنياً عن سبب اهتمامه بمخاطبة الشيعة و تجاهله للمسلمين فأجاب ( الشيعة لهم عنوان أخاطبهم من خلاله و هو المرجعية بينما أنتم السنة "أتحفظ على هذه الكلمة" فليس لكم عنوان) . هذا الجواب يلمس فيه المحلل السياسي ذكاء بريمر بالمقارنة مع نيكسون الغبي . لقد أنفقت أمريكا تريليونات الدولارات "يقولون 8 لكنها أكثر" و خسرت عشرات الآلاف و ربما أكثر من جنودها و أضاعت الأوقات و الجهود في محاربة دين ليس له عنوان محدد حيث لا دولة تمثله بشكل حقيقي و لا لديه رجال دولة يمثلونه و لا يوجد إسلام سياسي يرعى شؤون الناس بأحكامه. كانت حرب أمريكا العبثية الشرسة على مسلمين مدنيين مسالمين بسطاء يعيشون في هوامش الدنيا بجميع جوانب الحياة "اقتصاد ، زراعة ، تجارة ، سياسة ، علوم ، صناعة ... الخ" . لقد كانت حرباً بلهاء غبية "يقول بعض علماء الدين المعتبرين أن الغباء هو أحياناً جندي من جنود الله " . أثناء تركيز أمريكا الأحمق على أمتنا بالسوء ، استردت روسيا عافيتها و تقدمت و خرجت الصين من شرنقة البناء الاقتصادي السلمي إلى البناء العسكري و تقدمت . نحن الآن في واقع مختلف ، بعد عام 2021 لأسباب يصعب أن أوضحها لأن التعليق سيطول، حيث انتهى تحجيم أمريكا للمنافسين و صار أمام أمريكا تحدَيان من دولتين . سواء في أوكرانيا أو في كازاخستان أو في أي مكان آخر فيه نزاع ، صار على المحلل السياسي أن ينظر إلى ثالوث " أمريكا ، الصين ، روسيا" و دور هؤلاء فيه . تركيا أعقل من أن تزج نفسها في صراع الفيلة ، و لقد رصدت أنا رد فعل سياسيي تركيا فوجدت أنه موزون و ليس ضد أحد و هذا يكفي .