هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "الغارديان" مقالا لمراسلها سابقا في كل من القدس وجوهانسبيرغ، كريس ماكغريل، قال فيه إنه حتى في خضم موجة الثناء على رئيس الأساقفة السابق الموقر "ديزموند توتو" في الأيام التي تلت وفاته، فإنه لم يكن بطل مناهضة الفصل العنصري محل حزن عالمي، بل إن آلان ديرشوفيتز، المحامي الدستوري الأمريكي الشهير والمدافع المتحمس عن إسرائيل، قام بوصف توتو بأنه "شرير" و"أكبر معاد للسامية تأثيرا في عصرنا".
فقال لشبكة فوكس نيوز: "العالم في
حداد على الأسقف توتو، الذي مات قبل أيام. هل يمكنني تذكير العالم بأنه على الرغم
من قيامه ببعض الأشياء الجيدة، والكثير من الأشياء الجيدة بشأن الفصل العنصري، إلا
أن الرجل كان معاديا للسامية ومتعصبا؟".
وفي المقال الذي نشرته الغارديان وترجمته "عربي21"، اتهم ديرشوفيتز، توتو بالتقليل من شأن
الهولوكوست ومقارنة إسرائيل بألمانيا النازية - وهو تفسير متطرف لتصريحات رئيس
الأساقفة السابق التي تحتاج إلى شيء من الإمعان لفهمها.
اقرأ أيضا: "عربي21" تعيد نشر مقالين للراحل ديزموند توتو حول فلسطين
لكن جريمة توتو الحقيقية في نظر أكثر أنصار إسرائيل المتعصبين كانت تشبيه حكمها للفلسطينيين بالفصل العنصري ثم رفض التراجع في مواجهة الهجوم الكاسح عليه بعد ذلك. خلال زيارته لإسرائيل وفلسطين، تعرف توتو على الفور على وجه الشبه مع وطنه في عمليات الإزالة القسرية، وهدم المنازل، وإهانة نقاط التفتيش وأنظمة السيطرة على الحركة، ومصادرة الأراضي للمستوطنات اليهودية، وحصر الفلسطينيين في مناطق محددة، التي تذكر بمناطق بانتوستان السوداء [في جنوب أفريقيا].
وأهم من كل شيء هو أنه رأى شعبا يتحكم بشعب آخر، مثل السود في جنوب إفريقيا حتى عام 1994، الذين لم يكن له رأي يذكر في حكمهم.
لم يكن توتو وحده في رأيه. تلقى الرئيس
الأمريكي الأسبق جيمي كارتر اتهامات لاذعة مماثلة من ديرشوفيتز وآخرين عندما نشر
كتابه الأكثر مبيعا، فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري، في عام 2006.
لكن كان الهجوم على توتو أكثر صعوبة. لم يكن لديه فقط سلطة جائزة نوبل للسلام الممنوحة لموقفه الشجاع ضد الحكم الأبيض في جنوب إفريقيا، ولكنه أيضا عرف الفصل العنصري عندما رآه.
منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، قال
توتو في مؤتمر في بوسطن: "لقد شعرت بضيق شديد في زيارتي للأراضي المقدسة؛ لقد
ذكرتني كثيرا بما كان يحدث لنا نحن السود في جنوب إفريقيا".
بعد سنوات قليلة أصبح أكثر مباشرة،
فكتب في عام 2014 في دعوة للجمعية العامة المشيخية في أمريكا لدعم العقوبات ضد
إسرائيل: "أعلم من تجربة مباشرة أن إسرائيل أوجدت واقع الفصل العنصري داخل
حدودها ومن خلال احتلالها".
إن شخصية في مكانة توتو ترسم أوجه
تشابه بين نظام مبني على العنصرية وواقع الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين،
والدعوة إلى المقاطعة لإنهائها، أزعجت الحكومة في إسرائيل. ومع احتضار حل الدولتين
في أحسن الأحوال، تواجه إسرائيل حركة متنامية ترى الصراع من خلال المنظور الأخلاقي
للحقوق المدنية والظلم، وهو إطار له صدى تاريخي في أمريكا على وجه الخصوص واكتسب
أهمية إضافية في زمن حياة السود مهمة.
بينما كان توتو ينتقد الهجمات
الفلسطينية، فإن تشبيهه الضمني للإسرائيليين بالبيض في جنوب إفريقيا خلال الفصل
العنصري تحدى السردية القديمة للدولة اليهودية لتصوير نفسها بشكل أساسي كضحية
للعدوان العربي والإرهاب، واستبعاد الدور الذي لعبه الاحتلال والمستوطنات في
النزاع.
ووجه آخرون الاتهام، بما في ذلك سلسلة
من الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين السابقين الذين يقولون إنهم لم يعودوا قادرين
على إنكار حقيقة أن بلادهم تمارس شكلا من أشكال الفصل العنصري. وقام رئيسا وزراء
إسرائيليان سابقان، إيهود باراك وإيهود أولمرت، بذكر أوجه الشبه مع جنوب إفريقيا القديمة. لكن توتو كان يتمتع
بسلطة أخلاقية لم يفقها سوى الرجل الذي اختزل بشخصه النضال ضد الفصل العنصري،
نيلسون مانديلا.
وبرر توتو الدعوات لمقاطعة إسرائيل في
صحيفة "هآرتس" في تل أبيب. وقال إن جنوب إفريقيا كان لديها قادة غير
عاديين في وقت التغيير، "لكن ما أجبر هؤلاء القادة في النهاية على الجلوس حول
طاولة المفاوضات هو مزيج من الأدوات المقنعة وغير العنيفة التي تم تطويرها لعزل
جنوب إفريقيا اقتصاديا وأكاديميا وثقافيا ونفسيا".
كان رئيس الأساقفة السابق يعلم أن هذا
لن يحدث إلا إذا تم حشد الناس العاديين، بعد أن شهدوا تواطؤا غربيا كبيرا مع الفصل
العنصري. أدرجت الحكومة الأمريكية المؤتمر الوطني الأفريقي كمنظمة إرهابية بينما
كانت تدعم حرب جنوب إفريقيا البيضاء في أنغولا. كانت مارغريت تاتشر من أشد
المعارضين للعقوبات ضد نظام الفصل العنصري.
بشكل منفصل، حذر توتو من أنه لا يمكن
أن تكون متفرجا محايدا، فقال: "أولئك الذين يغضون الطرف عن الظلم في الواقع
يديمون الظلم.. إذا كنت محايدا في حالات الظلم، فقد اخترت أن تكون في صف
الظالم".
كل هذا أكسب توتو غضبا خاصا من بعض
المدافعين عن إسرائيل. واتهمته رابطة مكافحة التشهير بمعاداة السامية بسبب دعوته
للمقاطعة. حفر آخرون في الماضي البعيد وتعلقوا بدعوة وجهها توتو للتسامح أثناء
زيارة نصب ياد فاشيم التذكاري لليهود المقتولين في أوروبا في عام 1989. "نصلي
من أجل أولئك الذين فعلوا ذلك، ساعدنا أن نسامحهم وساعدنا كي لا نقوم بدورنا بجعل
الآخرين يعانون".
وبصورة مميزة أعطى ديرشوفيتز دعوة توتو
التفسير الأكثر تطرفا من خلال وصفها بأنها "طلبت من اليهود مسامحة النازيين
لقتلهم". في الواقع، سعى توتو باستمرار لطمأنة المجتمعات اليهودية في جميع
أنحاء العالم بأنه يفهم تاريخهم ومخاوفهم، لكنه لم ير أي سبب لعدم الاستمرار في
تسمية الاحتلال كما يراه.
كان رئيس الأساقفة السابق سعيدا لأن
الآخرين اعتنقوا وجهة نظره بشكل متزايد. هذا العام، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش
في أمريكا ومنظمة بتسيلم، وهي منظمة حقوق الإنسان الأبرز في إسرائيل، تقارير رائدة
تصف هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين بأنها فصل عنصري.
لكن في النهاية كانت نية توتو عدم
الإدانة. تتوافق دعواته للتسامح مع إيمانه بأنها خطوة أساسية نحو العدالة والسلام
- وهي وجهة نظر محورية في رئاسته للجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا.
وختم الكاتب بالقول إن توتو رأى كيف تحرر الجميع، بمن فيهم البيض، عندما انتهى الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. لقد أراد أن يحرر الإسرائيليون أنفسهم من عبء الفصل العنصري أيضا.