قضايا وآراء

في تفاهة الثورات المضادّة

غازي دحمان
1300x600
1300x600
تؤشر سلسلة الحوادث التي مرت في مسيرة سيف الإسلام القذافي، من لحظة اعتقاله ثم إخراجه من السجن، وبعد ذلك الحكم عليه بالإعدام، ثم العفو عنه، وصولا إلى ترشحه لانتخابات الرئاسة الليبية، ثم إخفائه عن الأعين، إلى وجود ترتيب مقصود في هذا المسار وتحضير لسياق يكون جزءاً من مشهده.

ومع اختلاف الوقائع والمجريات، مع تشابه الفاعلين، جرى هذا السيناريو في سوريا مع بشار الأسد، حيث تضمنت هنا المحافظة عليه أولاً، ثم إبراز خطر المتطرفين لتغطية تطرفه، وفي مرحلة لاحقة تدمير البدائل وتمييعها، وصولاً إلى طرحه أمراً واقعاً فيصبح رفضه انحيازا ضد الرشادة والعقل.

كيف جرت هندسة هذه المنظومة من الوقائع والأحداث على مدار سنوات لاهبة وصاخبة؟ ومن هي الجهات التي وقفت وراء ذلك؟
الطرف الآخر، وهذا جزء من المخطط العريض، كان قد فتك باكراً بحواضن الثورة وحواملها، مما سيدفع هؤلاء إلى صرف ما تبقى لديهم من طاقة لتضميد الجراح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه

في سوريا وليبيا، وبقية دول الربيع العربي، كان الشعب، غير المؤطر ضمن أحزاب وتنظيمات سياسية، هو صانع الحدث، ورغم محاولة النخب في هذه البلدان استدراك هذه الإشكالية وصناعة قيادات وأطر وهياكل لتنظيم الحراكات وتحقيق نوع من التوازن في مواجهة شراسة القوى الأخرى، إلا أن الأمر جاء متأخراً، ذلك أن الطرف الآخر، وهذا جزء من المخطط العريض، كان قد فتك باكراً بحواضن الثورة وحواملها، مما سيدفع هؤلاء إلى صرف ما تبقى لديهم من طاقة لتضميد الجراح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

في الطرف المقابل، كانت هناك جهات منظّمة، تحت تصرفها موارد الدولة، ولديها شبكات علاقات مصلحية، إقليمية ودولية ونخب داخلية متضررة من ذهابها وراغبة في عودتها ولديها موارد تستطيع توظيفها في خدمة أهدافها، وسمح ذلك لهذا التحالف بترتيب أولوياته، وحشد الموارد والإمكانيات لتحقيقها.

مخطئ من يعتقد أن الحلفاء الدوليين والإقليميين والنخب الموالية كان هدفهم في البداية الحفاظ على رؤوس بعض الأشخاص، ففي البداية، وفي مواجهة زخم الثورات، كان الهدف الاستراتيجي الأساسي عدم السماح للثورات بالانتصار، وإن انتصرت فعدم السماح لها بالاستقرار والديمومة. وتنوعت التكتيكات في هذا المستوى، ما بين إزاحة رأس السلطة، أو استخدام العنف الطائفي إلى أقصاه، أو إحياء القبلية، وسواها من التكتيكات التي مارسها الطرف الآخر على جسد بلدان الحراكات العربية.
كان الهدف الاستراتيجي الأساسي عدم السماح للثورات بالانتصار، وإن انتصرت فعدم السماح لها بالاستقرار والديمومة. وتنوعت التكتيكات في هذا المستوى، ما بين إزاحة رأس السلطة، أو استخدام العنف الطائفي إلى أقصاه، أو إحياء القبلية

عبور هذه المرحلة، التي تصنف على أنها أكثر المراحل خطورة على أنظمة الحكم، ولّد أهدافا وأولويات جديدة لدى التحالف المضاد للثورات، كان من ضمن الأهداف المحافظة على الأشخاص الحاليين (حالة سوريا)، أو تظهير شخصية من قلب النظام السابق لقيادة الثورة المضادة (حالة مصر)، أو استعادة وجه سلطوي قديم من النظام الذي قامت الثورة ضده (حالة ليبيا).

الفاعل ليس مجهولاً هنا، فهم بالإضافة إلى روسيا وإيران، أطراف عربية عديدة ذهبت تقديراتها إلى أن وسطاً ثورياً عربياً سيكون مناخاً غير مناسب لاستمرارها في السلطة، ومن الطبيعي أن تغيّر المعادلات الإقليمية سيضع استمرارها في الحكم على عتبة تحولات حتمية، ولن تكون هناك جزر مستثناة ولا معفاة من هذا المد، وبالتالي فإن القضاء على هذه الظاهرة، وتغيير المعطيات، بل وتعقيم البيئة العربية حتى لا تعاود إنتاج مثل هذه الظاهرة، هو الحل الأنسب.
على الرغم من تغيّر أبنية المجتمعات العربية، ولو على سبيل القسر والإكراه، واختلاف الموازين الديمغرافية، وتغيّر الأنماط الفكرية، هناك إصرار على إعادة الأبنية السياسية ذاتها، التي من المفترض أنها انهارت بفعل الثورات

في هذا الإطار يأتي رفض هؤلاء الفاعلين لأي تغيير ولو على سبيل المساومة، والإصرار على إعادة الأمور إلى ما قبل 2011 وكأن لا ثورات حصلت، جزءاً من قواعد اللعبة التي يراد فرضها على الشعوب التي ثارت، وإثبات أن اللعبة كانت صفرية، ولا تحتمل مساومة، وهدفها إخضاع الثورات بصرف النظر عن كارثية النتائج التي سيستتبعها هذا الخيار.

هذا يعني، في التحليل السوسيولجي، أنه على الرغم من تغيّر أبنية المجتمعات العربية، ولو على سبيل القسر والإكراه، واختلاف الموازين الديمغرافية، وتغيّر الأنماط الفكرية، هناك إصرار على إعادة الأبنية السياسية ذاتها، التي من المفترض أنها انهارت بفعل الثورات، أو أنها باتت غير صالحة حتى ما قبل عشية تفجر الثورات في عام 2011، وهذه حالة شاذة وتنطوي على خلل بنيوي فاضح.

وفي محاولة لإعادة سياق بات في حكم الماضي، تصر قوى الثورة المضادة على عدم تجميل أدواتها وتقديمها بأغلفة جديدة، بل تصر على إخراج شخوصها بثيابهم القديمة وبأنماطهم السلوكية وبعاداتهم وقيمهم، وبتوحشهم وقلة ذوقهم، كأن مسرح الحدث العربي لم ينتج في السنوات الفائتة فيضا من الرؤى والتصورات والأحلام، أم أن تلك الأحلام جرى سكبها في خرائب المدن أو أُغرقت في البحار وهي تبحث عن النجاة؟ أم الهدف أبعد من ذلك، وهو ضرب مركز الأحلام في جهاز طموحات الشعوب ضربة قاضية من خلال تصدير هذه الوجوه الكالحة إلى مقدمة المشهد العربي؟
سيف الإسلام القذافي وبشار الأسد، وغيرهما من الأشخاص من ذات العينة، ليسوا أكثر من أدوات للثورة المضادة التي لها مراكزها ومصالحها وأهدافها، وهم موظفون لدى تلك المراكز، التي استطاعت، مؤقتاً، النجاة من الثورات

لكن أيضاً ما الفائدة من استعادة سيف الإسلام القذافي؟ هل هناك حاجة لكركوز يهذي ويبذّر كما كان يفعل الأب؟ هل اختل توازن العالم برحيل هذا النمط الشاذ من القادة ويصار إلى استدراك هذا الخطأ لعودة التوازن؟ هل هناك حاجة لقطب مخدراتي في المنطقة، وأن المزاج العام سيتعكّر برحيل أو زوال بشار الأسد؟

سيف الإسلام القذافي وبشار الأسد، وغيرهما من الأشخاص من ذات العينة، ليسوا أكثر من أدوات للثورة المضادة التي لها مراكزها ومصالحها وأهدافها، وهم موظفون لدى تلك المراكز، التي استطاعت، مؤقتاً، النجاة من الثورات، لكن هل تستطيع دائماً فعل ذلك؟ جميعهم يقعون على خط الثورات، بمن فيهم أكبرهم فلاديمير بوتين.

twitter.com/ghazidahman1
التعليقات (0)