قضايا وآراء

الكتاب الأسود لوساطة الأمم المتحدة في الثورة السورية

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
جاء تصريح الوسيط الدولي في سوريا، غي بيدرسون، الأخير مفاجئاً للبعض، حين بشّر بأن ثمة انفتاحاً عربياً باتجاه النظام السوري، وهو ما سيفتح أفق علاقة بين النظام والدول العربية على حدّ قوله. لكن التصريح لم يكن مفاجئاً للغالبية السورية التي تراقب تصريحات وسلوكيات المنظمة الدولية المعادية للثورة منذ البداية، فلم يكن التصريح في الواقع إلاّ حلقة في سلسلة الوساطة الدولية في سوريا تهدف إلى تعويم النظام، وخلع أنياب الثورة السورية.. بدأت منذ اليوم الأول حين اعترفت المنظمة بالنظام الذي قالت عنه عشرات تقاريرها بأنه ارتكب جرائم حرب، وأنه استخدم أسلحة محرمة دولياً، وانتهك قرارات مجلس الأمن تحت البند السابع، الذي حظرت عليه استخدام البراميل المتفجرة، ولكنه واصل استخدامها، وكذب على الأمم المتحدة ومنظماتها بأنه سلّم ترسانة أسلحته الكيماوية، ليتبين بعد سنوات كذبه، حين ضرب خان شيخون عام 2017 بالكيماوي، ثم أتبعه بضرب دوما في 2018.

وقد خلص تقرير نشره معهد السياسة العامة (مقرّه في العاصمة الألمانية برلين) إلى إحصاء وبشكل موثّق 336 حالة لاستخدام الأسلحة الكيماوية، تتراوح ما بين استخدام غاز الأعصاب وصولاً إلى قنابل الكلور الخام الخطيرة، مؤكّداً أن قرابة 98 في المائة من الحالات ارتكبها "نظام الأسد" وحلفاؤه، ومنهم مليشيا "قوات النمر" التي تدعمها روسيا.

لم يكتف السجل الأسود للأمم المتحدة بهذا كله، وإنما تجاهلت المنظمة الأممية كل الصور الصادمة لمشاعر العالم، وهي صور قيصر، والتي عكست حقيقة مسالخ أقبية القمع الأسدية، وهي الصور التي تضمنت 52 ألف صورة لـ11 ألف ضحية سُملت أعينهم، وقطعت آذانهم، ومثّل بأجسادهم التي لم يتبق منها سوى عظم ولحم، بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل، ومع هذا كله، يواصل بيدرسون الترويج لنظام المسالخ، والبراميل المتفجرة، والكيماوي، والكبتاغون والحشيش، ويُبشر بإدماجه داخل الأسرة الدولية.

تصريح بيدرسون كان على الأمم المتحدة نفسها أن تردّ عليه، كونه يعارض أبسط أبجديات التفويض الممنوح له من قبل مجلس الأمن، والذي يحصر دوره بالتوسط بين النظام المجرم، والمعارضة السورية، فاصطف مع النظام المجرم، وروّج له على حساب الضحية. ومع هذا لم نسمع إلاّ ردا يتيما من المعارضة السورية التي نددت به، وأتى تعليق السفير السعودي عبد الله المعلمي في مجلس الأمن الدولي بعبارته لا تصدقوهم.. وهو يتحدث عن كذب النظام السوري في نيته بالتغيير، والسلام والأمن، لينتقد بشكل غير مباشر التصريح الأممي، ويكشف عن إخفاق المنظمة الأممية حتى بالترويج للنظام عربياً، أمام مجلس الأمن وأعضاء الجمعية العمومية، فلم يعنهم التصريح بشيء.

سجل الأمم المتحدة في سوريا، كما هو في كل القضايا التي دخلت فيها، سجلٌ أسود، فهي لم تفلح خلال فترة وجودها إلاّ بإدارة مخيمات وعذابات ومصائب وجرائم ومجازر. أمّا المفاوضات الوحيدة التي نجحت بين الفرقاء المتنازعين، فهي المفاوضات التي نُحّيت فيها الأمم المتحدة عنها، كما برز في المفاوضات الأفغانية التي كانت بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان الأفغانية بوساطة قطرية، ومن قبل وساطات قطرية في جنوب السودان، ولبنان والصومال، وغيرها.

بعد ثلاث سنوات فقط على اندلاع الثورة السورية، وتحديداً مطلع كانون الثاني/ يناير 2014، أعلنت الأمم المتحدة عن وقف إحصاء شهداء الثورة السورية، فقد وجدت في الأمر إحراجاً يومياً وعلى الهواء مباشرة لها، ولتحركاتها، فالقتلى بالعشرات وربما بالمئات يومياً، وهي تكتفي بإحصاء وعدّ القتلى فقط، ليجهل اليوم العالم كله الأرقام الحقيقية لشهداء الثورة السورية، الذين تقدرهم مصادر ثورية بالمليون شهيد، فضلاً عن أضعافهم جرحى ومعتقلين، وأكثر من 14 مليون مشرد.

خلال فترة الوسيط الدولي ستافان ديميستورا الكئيبة خرج علينا مخالفاً للقرارات التي دعت إليها منظمته، ووافقت عليها الأطراف الدولية، فطرح قضية السلال الأربع، للالتفاف على قرار 2252، ولكن مع مرور الوقت حتى السلال تبخرت، ولم تتبق إلاّ السلة الدستورية العائمة التي لا مسطرة ولا مقياس لتطبيقها. وها قد مرّت سنوات عليها، دون أن يوافق النظام على كتابة مادة واحدة من الدستور، لانشغاله مع المحتلين الروسي والإيراني بسلخ الجغرافيا من أيدي المعارضة السورية، بمساعدة ومباركات دولية وإقليمية، حتى لم يتبق للمعارضة إلاّ مناطق محدودة، وسط تهجير وتشريد الملايين، وتفريع حواضر سنية تماماً من أهلها.

كانت المنظمة الأممية شريكا أساسيا في تسويق كل ما تفتقت عنه ذهنية الاحتلال الروسي والإيراني؛ إن كان بفتح خطوط المعابر مع النظام السوري، وتسويقه إنسانياً، أو بإغلاق معابر حدودية إنسانية وإغاثية عن الشعب السوري، مع الإبقاء اليوم فقط على معبر باب الهوى، حيث تقايض به روسيا بين الفينة والأخرى مع ملفات أخرى، وإلاّ فهي قادرة على إغلاقه بجرّة قلم، حين ترفع سيف ديموقليس الممثل بحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، والذي يخوّلها إغلاق المعبر، كما أغلقت قبله أربعة معابر، لتدفع الملايين ممن شردتهم من بيوتهم بعد أن دمرتها وأحرقت محاصيلهم؛ للموت جوعاً في العراء وسط صمت العالم وتواطئه.

الأمم المتحدة الحريصة على مكافحة المخدرات في أفغانستان وغيرها، التزمت الصمت وأخذت وضعية المزهرية بالكامل تجاه تجارة النظام السوري بالحشيش، وغضّت النظر تماماً عن تقارير تتحدث عن مشاركة الدولة وأجهزتها العسكرية الرسمية كالفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد شقيق رأس النظام السوري، وحتى مشاركة مؤسسات بيروقراطية للدولة في الموانئ والحدود ونحوها، بتصدير صفقات الكبتاغون، وبمليارات الدولارات وبشكل شبه يومي، حيث وصلت الشحنات إلى دول عربية كمصر والإمارات والسعودية والأردن، وغير عربية كاليونان وإيطاليا. ومع هذا تصر الأمم المتحدة عبر وسيطها للترويج لنظام الحشيش الكبتاغوني، ولم تخجل أن تبشر عبره بأن الدول العربية منفتحة على النظام.

شحنات وصفقات الكبتاغون تعددت أشكالها؛ من إرسالها عبر علب الحليب، أو داخل عجلات السيارات، أو حشوها في الفواكه، وحتى لم تسْلم منها علب الحلويات الشامية المعروفة، ليُفسدوا على الشام ومنتوجاتها كل شيء، ويربطوا أجمل ما أنتجته الشام، بالمخدرات والحشيش. لكن هذا في المقابل يؤشر ربما إلى حقيقة، وهي إفلاس النظام، وإفلاس المحتلين، وعدم قدرتهم على تمويل أنفسهم، لا سيما مع هجرة الطبقة الوسطى السنية التي كانت تحمل البلد، زراعة وتجارة وخدمات يومية؛ مثل النجارة والحدادة والتصليح ونحوها، ولذا نرى هذا الانهيار المريع للبلد، كون العصابة الطائفية على مدى عقود لم تبرْع سوى بمجال واحد، وهو القتل والعسكر والأمن، أما الأزدهار والتطور العمراني والإنساني فهو حكر على من قاد الثورة، فغدوا اليوم إما تحت الأرض شهداء، أو داخل الزنازين سجناء، أو فوق الأرض مهاجرين مقاتلين أو مشردين باحثين عن أرزاقهم في الشتات السوري أو شتات الشتات بعيداً عن الوطن.

لن ننسى أن التفريغ الديمغرافي السوري، كان بمباركة وتشجيع الأمم المتحدة، لتثبيت العصابة الطائفية في الحكم طوال هذه الفترة، لتواصل هوايتها في استقدام احتلالات متعددة ومليشيات طائفية متنوعة لقتل الشعب السوري وتهجيره، بينما كانت الأمم المتحدة وأشباهها مشغولة بالحديث عن داعش والقاعدة وغيرهما، وظل القاتل الحقيقي طليقاً، بل وتتعاون هي ذاتها معه بشكل كامل، حتى في السماح له بسرقة مساعداتها عبر زوجة رأس النظام أسماء الأسد، وزوجة وزير الخارجية الحالي فيصل مقداد، كمشرفتين على برامجها في دمشق. فأي مصداقية تبقت للأمم المتحدة في أعين المظلومين من الشعب السوري؟ وكما فقدت مصداقيتها من قبل في فلسطين وأفغانستان ولبنان والعراق، ها هي تخلع ورقة التوت الأخيرة، إن كانت قد تبقى لها أصلاً.
التعليقات (0)