هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كلما طرح موضوع تعدد الزوجات، رأينا فيه الآراء مفترقة إلى حد كبير، بين من يجرمه، ومن يراه سنة وهو الأصل في الإسلام.. ولأن موضوع التعدد له جوانب متعددة من حيث نظرة الشرع له، فلا يمكن حصره في كلمة يقولها الإنسان، أو الفقيه الذي ينظر في نصوص الشرع في الموضوع.
فالموضوع له تشعبات، وزوايا مهمة لمن يريد أن يتناوله بإنصاف، كي يبتعد عن الإفراط أو التفريط، وسوف أناقش في مقالات ثلاث على الأقل إن شاء الله الموضوع، من عدة زوايا، الزاوية: الأولى: هل التعدد سنة وهو الأصل، أم أن الأصل واحدة، والتعدد رخصة رخص فيها الشرع؟ والثانية: هل للحاكم أو القانون، أو ولي الأمر ـ حسب مصطلح الفقهاء ـ أن يصدر قرارا بمنعه، أو تقييده؟ والثالثة: هل التعدد مشكلة شرعية، أم مشكلة اجتماعية، على من يتطرق لها أن يدرك هذه الجوانب.
وللأسف تغيب النظرة العاقلة والراشدة للأمر فقها وشرعا حينما يترك الأمر فيه لكل هاو، أو لكل من يريد أن يكون له رأي في كل قضية، حتى لو كانت شرعية بالأساس، ولها شق اجتماعي، فيريد أن يدخل من أي مدخل ليكون له رأي، وهو ما سنراه عندما نتأمل النصوص الشرعية في الموضوع، وأن هناك من يريد أن يلوي أعناق النصوص لتوافق رغبته وهواه، أو يلبس آراءه ثوب الشرع، ولا مانع من النظر في قضية تختلف فيها وجهات النظر، ويقول كل رأيه، دون أن نجزم بأنه الشرع الذي لا شرع سواه، أو أنه الحق وحده.
إن مسألة التعدد هي مسألة شرعية بالأساس، ويخطئ من يتناولها بعيدا عن نظرة الشرع للزواج بوجه عام، فكثيرا ما تجد هذا السؤال: ما حكم الإسلام في تعدد الزوجات؟ والحقيقة الفقه الإسلامي لا يناقش التعدد تحت باب التعدد، بل يناقش الزواج بالأصل، وما يمكن قوله في الزواج الثاني، هو نفس حكمه في الشرع في الزواج الأول، وكذلك الثالث والرابع، فكلها لها حكم واحد، هو ما ناقشه الفقهاء في حكم الزواج في الشرع.
الزواج من الأحكام التي ليست ثابتة على حكم واحد، فهو يختلف باختلاف حال القائم به، وهو الزوج، أو الزوجة، ولذا تجد الفقهاء لا يقولون فيه قولا واحدا، فيقولون عنه: الزواج تعتريه عدة أحكام، ولذا نجد من نصوصهم قولهم: (النكاح حالة الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة، وحالة التوقان واجب، وحالة الخوف من الجور مكروه)، فليس للزواج حكم واحد نستطيع أن نقول: إنه واجب على الجميع، أو محرم على الجميع، أو مستحب للجميع، بل كلٌّ له حالته التي تناسبه.
ولذا رأينا فقهاء كبار من الأمة لم يتزوجوا، وقد ألف في ذلك العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كتابا بعنوان: العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، ومنهم: بشر الحافي، وهناد السري، والطبري، والزمخشري، والنووي، وابن تيمية، وكذلك نساء عالمات لم يتزوجن رغبة منهن عن الزواج، وسنجد فيمن تركوا الزواج من العلماء على اختلاف مشاربهم الفكرية والفقهية، لأنه فاضل بين العلم والتفرغ له، وبين الزواج، ولم يجد بداخله رغبة في الزواج، واستطاع أن يحمي نفسه من الوقوع في الحرام، وترجح لديه ذلك، دون أن يجد في ذلك ولا من حوله موقفا يهاجم عليه شرعا، وستجد في كتب كل من تركوا الزواج الحديث عن حكم الزواج، ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
في هذا السياق الفقهي كان العلماء والفقهاء والمجتمع ينظر للزواج، على أنه حالة فردية لكل شخص، هو من يفتي نفسه، وحالته تفتيه في ذلك، هل الزواج في شأنه واجب، أو مكروه، أو سنة، فلا يفرض رأيه على أحد، ولا يفرض أحد عليه رأيه.
وهو ما يغيب عن النقاش في الموضوع، فبعض الرجال يريد بمنطق الذكورية الحديث عن التعدد من باب أنه دلالة من دلالات الفحولة، وبعض النساء تردن الحديث بالمنع من باب: وهل طبق الرجال كل شرع الله ولم يبق لهم إلا التعدد؟! والأدهى هو الاستدلال بالنصوص، والحقيقة أن التعدد لم يرد فيه نص لا بتشجيع، ولا بمنع.
نعم المتأمل لنصوص القرآن الكريم والسنة في الزواج، لن يجد دعوة للتعدد، ولا دعوة لرفضه، بل سيجد حديثا عن الزواج، وعن حقوق العشرة، وعن أصول الحياة الزوجية، وأنها تبنى على الود، والمحبة، والرحمة، والسكن، وما يساق من نصوص لو تخلى القارئ عن المؤثرات المحيطة به، سيجد أنها لا علاقة لها بفرض التعدد أم رفضه، ولا القول بسنيته، ولا باستحالته، كما يذهب كثير ممن يتعارك حول الموضوع.
ليس التعدد في الإسلام إذن قضية عامة شرعية لها حكم واحد على الجميع سواء بالحل أو الحرمة، ولذا رأينا كثيرا من الفقهاء والمفسرين فهموا من قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، بأن الأصل في الزاوج: هي واحدة، وما عدا ذلك فحالات استثناء ليست أصلا، وكل حالة بحالتها.
إن التعدد كما يظن من يستدل له أو عليه، ورد في آيتين في كتاب الله تعالى، الأولى في قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) النساء: 3، وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) النساء: 129. فالآيتان تتحدثنا عن حقوق المرأة، في وقت كانت تظلم، وتؤكل حقوقها المالية، وعلى رأس هؤلاء: المرأة اليتيمة، ويتخذ الزواج سببا للظلم، طمعا في الثروة، واستضعافا لحالها باليتم.
فجاءت النصوص لتضع ميزانا وشرطا مهما، وهو وجوب العدل في الزواج، وبخاصة المرأة الضعيفة، ولذا سنجد مفردة: (تعدلوا)، وعند عدم توفر العدل ينصح القرآن بنصيحة لمن يفكر في هذا الأمر، وهو الزواج، سواء كان الزواج بواحدة أم بأكثر، فحديث القرآن هنا عن العدل مع الزوجة، وغياب العدل يجعل الزواج ممنوعا، وهو ما قال به المفسرون والعلماء في حالة من يريد الزواج، ولا يملك الباءة، وهي: القدرة على العدل المادي من المال والحق الجنسي، فلو كان عاجزا جنسيا، فهل يحل له الزواج بواحدة؟ وقد تيقن من أنه لن يفي له بأي درجة من هذا الحق، بل ربما عرضها للفتنة، عندئذ يكون الحكم بالحرمة، لأن الظلم هنا متيقن.
بعيدا عن تأويلات كل طرف في موضوع التعدد بين التشجيع عليه، والمنع منه، سنرى أن الأمر كما رأينا، هو أمر متعلق بالعدل في الحياة الزوجية، وأن النصوص تحدثت عن الحياة الزوجية من حيث مبادئها وقوانينها، وشروطها المهمة، وتركت مسألة الواحدة أو أكثر، لكل حالة حسب تقديرها، فليس التعدد في الإسلام إذن قضية عامة شرعية لها حكم واحد على الجميع سواء بالحل أو الحرمة، ولذا رأينا كثيرا من الفقهاء والمفسرين فهموا من قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، بأن الأصل في الزاوج: هي واحدة، وما عدا ذلك فحالات استثناء ليست أصلا، وكل حالة بحالتها.
وهو ما نراه عند فقهاء قدامى بعيدا عن التأثر الحاصل الآن من الإعلام وغيره، فنرى عند الشافعية والحنابلة أنه يسن ويستحب: (ألا يزيد الرجل على امرأة واحدة من غير حاجة ظاهرة)، وروي قريبا من هذا عند الأحناف.
خلاصة ما قدمناه: أن التجريم مرفوض، وإنما يكون الجرم لمن يظلم في الزواج، سواء كان متزوجا بواحدة أم بأكثر، وأن ادعاء أن الأصل التعدد أيضا ليس صوابا ودعوى لا دليل عليها، والزواج بوجه عام لا يأخذ حكما واحدا، بل يعتمد على حال من يتزوج، رجلا كان أم امرأة، الحكم عليهما سواء، من حيث الوجوب، أو الكراهة أو الحرمة، أو غيره. فهل في ظل هذا الموقف يمكن لدولة أو حاكم أن يسن قانونا يمنع به التعدد؟ هذا ما نتناوله في مقالنا القادم إن شاء الله.
[email protected]