في أحد الأيام اللافحة الكوالح من أيام ما بعد زلزال الهدم والتكسر والحطام.. حزيران/ يونيو 1967م، وما قبل أيام مكرمة
المصريين الكبرى في أكتوبر العظيم.. كتب الأستاذ
هيكل (1923-2016م) في الأهرام وتحديدا في 12 آذار/ مارس 1971م يقول: إن القوات المسلحة المصرية تواجه معركة "من أصعب معارك التاريخ". وليست هذه صيغة مبالغة، وإنما هي وصف حقيقة، وعلينا أن نتمثل أمامنا طبيعة الأرض التي "قد يجد" الجيش المصري نفسه أمامها، ثم ما أقامه العدو من مواقع على هذه الأرض استغلالاً لطبيعتها.
ثقاة العسكريين في الغرب وفي الشرق يعتبرون مجرى قناة السويس واحدا من أهم الخطوط الدفاعية الطبيعية في العالم؛ من حيث كونه مانعاً ضخماً أمام المدافع، عائقاً ضخماً بنفس المقدار أمام المهاجم. الجيش المصري في تقدمه سوف يواجه ما لم يواجهه جيش من قبل، وأظنها سوف تكون أول مرة في تاريخ الحروب أن يواجه أي جيش أمامه مانعاً أو عائقا طبيعياً صعباً (قناة السويس) ثم خطاً دفاعيا أقيم على حافتها مباشرة (خط بارليف).
ليست هذه صيغة مبالغة، وإنما هي وصف حقيقة، وعلينا أن نتمثل أمامنا طبيعة الأرض التي "قد يجد" الجيش المصري نفسه أمامها، ثم ما أقامه العدو من مواقع على هذه الأرض استغلالاً لطبيعتها
* * *
خطة الدفاع الإسرائيلية أصبحت تعتمد على خطين ثابتين: الأول القناة وخط بارليف، والآخر جبال المضايق، كذلك فإنها تعتمد على منطقتين مكشوفتين لعمل المدرعات والطيران: أولاهما المنطقة المحصورة ما بين كثبان الشاطئ الشرقي إلى المضايق.. والأخرى الصحراء المفتوحة من حول المضايق وما يليها.
الجبهة المصرية أمامها الآن في سيناء من قوات الجيش الإسرائيلي - غير ما يمكن دفعه بسرعة فائقة من القوات الاحتياطية - ما يلي: فرقتان من المشاة الميكانيكية (35 ألف جندي)، وفرقة مدرعة (400 دبابة بأطقمها)، ولواء قوات كوماندوز محمول جواً بالهليكوبتر (70 طائرة هليكوبتر وثلاثة آلاف من قوات المظليين)، ومائة قاذفة ومقاتلة في مطارات سيناء القريبة، وما بين 800 إلى ألف مدفع ثقيل، هذا غير قوات خط التحصينات القابع على حافة الماء مباشرة وحقول ألغامه ونطاقات أسلاكه الشائكة وأسلحته، وما زود هذا الخط نفسه به من المخترعات وحيل الخداع والتمويه، وهذا أيضا غير ما تستطيع إسرائيل دفعه بسرعة إلى مسرح العمليات في حالة اتساع مدى القتال واضطرارها إلى التعبئة الجزئية أو العامة.
* * *
هذا الكلام الذي يودي بصاحبه إلى التحقيق الفوري أمام كل جهات التحقيق الممكنة، كتبه الأستاذ هيكل قبل
حرب أكتوبر بثلاثين شهرا وثلاثة أيام بالتمام والكمال، والأهم قبل 62 يوما من "خناقة الصغائر" في 15 أيار/ مايو 1971م، والتي أطلقوا عليها بعدها ثورة التصحيح أو عزل مراكز القوى.
أي شيطان خرج من قاع الجحيم ودفع الرجل الجالس مع الجالسين على سدة السلطة العليا كما يعرف الجميع وقتها لأن يكتب هذا الكلام؛ بكل هذه التفاصيل وفي هذا التوقيت وفي جريدة يومية وللعامة من الناس، بمن فيهم الجنود على خط النار، وأهل الجنود على خط القلق والآلام؟
هذا الكلام الذي يودي بصاحبه إلى التحقيق الفوري أمام كل جهات التحقيق الممكنة، كتبه الأستاذ هيكل قبل حرب أكتوبر بثلاثين شهرا وثلاثة أيام بالتمام والكمال، والأهم قبل 62 يوما من "خناقة الصغائر" في 15 أيار/ مايو 1971م، والتي أطلقوا عليها بعدها ثورة التصحيح أو عزل مراكز القوى
وهذا ما جعل اللواء الحسيني الديب يقول في كتابه الذي نشرته دار ممفيس عام 1980م (هيكل وأخلاقيات الصحافة) قائلا: "كان المقال له أثر مدمر وخطير في خفض الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة الذين أعربوا بغضب عن رفضهم القاطع لآراء هيكل الهدامة، وقاموا بتمزيق الجريدة وداسوها بأقدامهم رافضين ما يكتبه من آراء ومطالبين بإقالته لأنه غير ملتزم.. فهو يبدي آراء هدامة تدعو إلى الخنوع والاستسلام بدلا من القتال والاستبسال.. أراد هيكل أن يقدم التحية لأفراد القوات المسلحة فخانه القلم وجمح به الخيال بعيدا وشط به الفكر إلى هوة سحيقة، فلم يقدم التحية ولكنه قدم اليأس والتشاؤم، وأطنب وأفاض في وصف استعدادات العدو بشكل يوحي بأن التغلب عليها يعد ضربا من المحال وأن القتال في سبيل الاستيلاء عليها يعد نوعا من الانتحار".
* * *
ما كتبه الأستاذ هيكل هنا كان أحد أدوات المواجهة المؤجلة في "خناقة الصغائر" التي كان تدور رحاها وقتها في أقبية السلطة المشتعلة بنار الخصومات القديمة، إذ كان رجال الحرس القديم والورثة الطبيعيين للزعيم الخالد (علي صبري ومجموعته..) يضغطون على الرئيس الجديد إحراجا وإضعافا له بورقة
الحرب وإزالة آثار العدوان، عن طريق مظاهرات الطلبة والتنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي؛ ليبرهنوا للشعب كل يوم على عجزه وعدم قدرته على تحمل المسؤولية في هذا التوقيت الأخطر تاريخيا واستراتيجيا، وهم يعلمون بحكم وجودهم في قلب القرار وصنعه وقتها أن الزعيم الخالد كان في طريقه - بعد مبادرة روجرز الشهيرة - إلى ما هو أكثر وأبعد مما سيذهب إليه الرئيس السادات بعد حرب أكتوبر العظيمة.. ومن طرائف ذلك أن الرئيس السادات (1918-1981م) سأل الفريق أول محمد فوزى (1915-2000م) وزير حربية الزعيم الخالد بعد الإفراج عنه من اعتقالات 15 أيار/ مايو، وكان ذلك في شباط/ فبراير 1974م في استراحة القناطر كما حكى فوزي: "بذمتك يا فوزي عبد الناصر كان ح يحارب..؟".
ما كتبه الأستاذ هيكل هنا كان أحد أدوات المواجهة المؤجلة في "خناقة الصغائر" التي كان تدور رحاها وقتها في أقبية السلطة المشتعلة بنار الخصومات القديمة، إذ كان رجال الحرس القديم والورثة الطبيعيين للزعيم الخالد (علي صبري ومجموعته..) يضغطون على الرئيس الجديد إحراجا وإضعافا له بورقة الحرب وإزالة آثار العدوان، عن طريق مظاهرات الطلبة والتنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي
كان التصايح بحرب التحرير والكرامة وقتها في التنظيم السياسي والشارع الذي يسيطرون عليه أشبه ما يكون تاريخيا بالتصايح بمحاكمة قتلة سيدنا عثمان رضى الله؛ التي برر بها الخارجون على شرعية "الإمام علي" خروجهم عليه، سواء في الجمل أو بعدها في صفين. والجميع يعلم يقينا أن التحقيق والمحاكمة لا يمكن أن يكونا إلا في نظام سياسي واجتماعي مستقر وصلب وعليه. فالحصان ينبغي أن يكون أمام العربة، وكانت الأمة خارجة لتوها من فتنة عارمة وفوضى واسعة. لكن قصة "المحاكمة" كانت التعلة والتعالي لما خفي في الرأس والصدور.. فالجميع كانوا يريدون السلطة والحكم.. كما حكى لنا الأستاذ العقاد رحمه الله في عبقرياته وترجماته عنهم رضي الله عنهم أجمعين.
* * *
الصورة المبسطة للأمور، أيضا ما وراء الصورة مما سنعرفه لاحقا، يقول إن مقال الأستاذ هيكل (تحية للرجال) يصب في إناء الرئيس السادات في مواجهة خصومه المسيطرين على مفاتيح الدولة مفتاحا مفتاحا (جيش/ شرطة/ إعلام/ تنظيم طليعي في كل غرفة نوم!!)، وما كان له أن ينشر هذا "المقال الخطير" أصلا إلا بإيحاء مباشر أو غير مباشر من الرئيس السادات. ولم يكن المقال مفاجأة له بطبيعة الحال، وعليه فسيطول صبر الشعب قليلا في مشروع الاستعداد الجاد والقوي للحرب خوفا من تكرار ما حدث في 5 حزيران/ يونيو ولا يتمادى في مظاهراته الضاغطة على نظام الحكم، وهو بالمناسبة كان كلام معظم القادة العرب للسادات وقتها (الخوف من تكرار ما حدث في 1967م).
الأدهى أن إسرائيل وفي نفس هذا التوقيت كانت تعد لحرب ثانية!.. بل وأوسع من 1967م وأطلقت عليها "الحزام الأسود" لضم جنوب لبنان كله وأجزاء أخرى من سوريا بعد الجولان، ولتقيم خط بارليف جديدا في غور الأردن ثم تقوم بتحويل سيناء كلها إلى مركز تجارب للمفاعلات النووية..!! كما ذكر ديفيد اليعازر (1925-1976م) رئيس الأركان الإسرائيلي أثناء حرب 1973م، في مذكراته التي نشرتها دار المعارف 1998م.
* * *
عاد الرجل إلى بلاده يدعوه بعدها لزيارة أمريكا ليقابل هنرى كيسنجر (98 سنة)، وزير الخارجية الألمع وقتها، ورجاله أيضا.. والذين كانوا يرتبون الترتيبات لحالة الشرق الأوسط في مسار ما بينهم وبين الاتحاد السوفييتي بعد جولات فيتنام والتقارب الصيني، وما عُرف وقتها بـ"الوفاق الدائم"
وعودة إلى مقال الأستاذ هيكل، والذي كان عائدا لتوه من رحلة لأوروبا طاف فيها وشاف وسمع، ولربما أيضا قال كما ذكر هو في حديثه حين مثل متهما أمام مع المدعى العام الاشتراكي في آب/ أغسطس 1978م؛ إنه أراد أن يشير إلى عظم وجسامة المهمة التى سيقوم بها الرجال.. لا أتصور أن ذلك فقط ما كان يريد الإشارة بل والإفصاح عنه.. أتصور أنه كان يمهد أيضا بهذا المقال للسير في طريق المفاوضات (الآتي.. لا محالة!) واعتبار إسرائيل جزءا من واقع المنطقة وأنها قدر لا فكاك منه.
وكان الأستاذ هيكل قد قابل في حزيران/ يونيو 1971م (بعد ضجة المقال) دونالد كاندال (1921-2020م)، رئيس مجلس إدارة شركة بيبسي كولا التي كان الرئيس نيكسون (1913-1994م) محاميها قبل الرئاسة والسياسة، والذي كان موجودا وقتها في القاهرة.. قابله وقال كلاهما وسمع كلاهما.. وعاد الرجل إلى بلاده يدعوه بعدها لزيارة أمريكا ليقابل هنرى كيسنجر (98 سنة)، وزير الخارجية الألمع وقتها، ورجاله أيضا.. والذين كانوا يرتبون الترتيبات لحالة الشرق الأوسط في مسار ما بينهم وبين الاتحاد السوفييتي بعد جولات فيتنام والتقارب الصيني، وما عُرف وقتها بـ"الوفاق الدائم"..
(وإن شاء الله نكمل المقال القادم.. عما جادت به الحرب وتاهت به السياسة).
twitter.com/helhamamy