الإعلام العربي الموالي لأمريكا، ومعظمه خادمها حتى الممانع منها، يجاهد لتحويل وحل
الهزيمة الأمريكية في أفغانستان إلى حنّاء.. لنعد إلى طين الفيلم الأمريكي بريداتور، كي نعرف الفرق بين حنّاء الطين وعار الوحل، حتى الجزيرة تتجنب ذكر الهزيمة والانتصار في أخبارها، بل إنّ مذيعتها في الدوحة ميادة عبد الله كانت تجتهد لتصويب عبارات مراسلها يونس آيت ياسين الذي كان يصف تحطيم الأمريكان الهاربين للمطار وأثاثه بعبارات صحيحة؛ لكنها تُغضب المهزوم القوي.
لا توجد هزيمة، أمريكا كانت تتنزه في أفغانستان، وعادت إلى ديارها بعد كثير من التذكارات سيكون أهمها صورة الجندي الأخير "الأخضر" كريستوفر دوناهو؛ وهو يهرب في الظلام كأنه جندي في فيلم بريداتور بعد كثير من صور "سفنية الحب" في المطار، مثل صورة جندي يسعف سيدة أفغانية أو مشهد جندية تعانق طفلا أفغانيا علشان الصورة تطلع حلوة والهزيمة تتحول نصرا.
سنتحدث عن أقنعة الطين.. بريداتور فيلم أمريكي أُنتج عام 1987 من إخراج جون مكتيرنان، ومن بطولة آرنولد شوارزنيجر، عن مجموعة من جنود فرقة خاصة يقودهم الكابتن داتش شافير، أُرسلت لإنقاذ جورج ديلون، وهو دبلوماسي أمريكي سقطت طائرته في إحدى غابات أمريكا الجنوبية، لكنهم يباغَتون بوجود كائن غامض يقتل أفراد الفريق واحداً تلو الآخر. الكائن فضائي يستطيع التكيف مع أشجار الغابة، ويمكن أن يتخفّى، وهو يمتلك تقنية دفاعية وهجومية عالية ومتطورة.. ثقافة الغرب ثقافة صورة. يقضي الوحش الفضائي على الجميع إلا الكابتن داتش، الذي يكتشف أن الطين يخفيه عن عين الوحش، فيتعادلان في الخدع، وينتصر داتش على الوحش بأدوات بسيطة ويجعله ينتحر. ينسى الفيلم إخبارنا بمصير الدبلوماسي، فلم يكن سوى ذريعة للفيلم المشوّق.
أفلام الخيال العلمي الحربي التي صنعتها هوليود لمواساة الأمريكيين على هزيمتهم في فيتنام كثيرة، كان أحدها فيلم لرامبو، وهي سلسلة أفلام كانت هوليود تنقل مواقع تصويرها بين دول العالم الثالث.. يُخلف رامبو في غابات فيتنام، وتخذله قيادته، فينتصر بذكائه وعضلاته على الفيتناميين "الأشرار" الذين يقاومون القتل بالأسلحة الأمريكية الفاخرة.. القوات الأمريكية تنقذه في اللحظة الأخيرة، فهو أهم من جورج ديلون في فيلم بريداتور.
يروي البريداتور الفضائي اللطيف أيان فريتز الذي تعلّم البشتونية وأتقنها قصة تجسّسه على مكالمات
طالبان، ومحاولاته لمعرفة أسرارهم وخططهم، ومراده بلغة السينما الأمريكية معرفة الطين الذي يخفون به أنفسهم، وخلص إلى خلاصة أنّ أفغانستان أرض لافظة للمحتل، وأنّ الأفغان ينبثقون من الأرض في كل مكان بعد تطهيرها بالنار.
ظهر جو بايدن وهو يحاول غسل الوحل الذي علق به مدافعاً عن قراره الذي أيده أكثرية الشعب الأمريكي، فأوحى بأنّ لعنة أفغانستان طالت الجنود المتقاعدين والمنسحبين، وإنهم ينتحرون بمعدل 18 جندياً في اليوم، ويُعتقد أن الحسبة منذ احتلال أمريكا أفغانستان. وقد أبرز الإعلام الأمريكي صور بعض المشوهين الناجين من الحرب، وهي صور مرعبة. هم ينتحرون لأن أطياف الأطفال والنساء والأبرياء المغتصبين والمغدورين تطاردهم في أحلامهم ويقظتهم.
الطين غير الوحل، وقد دهن الإعلام العربي الموالي لأمريكا صورة الأمريكي المهزوم بكثير من أصباغ التجميل، وكانت أمريكا قد طلبت تمديد المهلة من طالبان حتى يرحل في حفلة وداع بالدموع والأحضان، لكن طالبان لم تمهلها، فولّى الأدبار في الليل. عرفنا دولا عظمى تمهل دولا إسلامية، لكن لا نذكر دولة إسلامية معاصرة أنذرت دولة عظمى ببطاقة حمراء!
سمّى الرئيس الأمريكي بايدن الأشياء بأسمائها، واعترف بأنّ أمريكا تهرب من مدفنها، والنوم في المقابر موحش، لكن إعلام الدول العربية التي ترعاها أمريكا وتحميها لم تملّ من ترديد عبارات مثل: الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الوجود الأمريكي في أفغانستان، الدخول الأمريكي في أفغانستان، الخروج الأمريكي من أفغانستان، وصار اسم القوة الطالبانية التي تحمي المطار هي قوات "بدري" في أشهر صحيفة سعودية، تجنباً لذكر اسم بدر وهي معركة الإسلام التأسيسية.. طالبان أطلقت عليها اسم بدر تيمناً بمعركة بدر الأولى، لكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
ولم يكن في بريداتور ولا في فيلم رامبو إناث.. الأمريكيون يعرفون أنه لا مكان للأنثى في الحرب، مع أن الأنثى جذّابة في الأفلام، وهي ضرورة سينمائية. بل إن فرنسا في الحرب العالمية الثانية بعد هزيمتها أغلقت الملاهي واعتبرتها سبباً للهزيمة، لكن في هزيمة أمريكا لم تغب المرأة الأفغانية عن إعلام العرب وتصريحات الأوروبيين، بل هي أسّ المعركة الإعلامية، يريدونها حاضرة حتى يهزموا عدوّهم، فليس أجمل من صورة المرأة وهي ترقص أو تغني، وقد "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ". لكن الأمريكيين لا يريدون امرأة طبيبة أو ممرضة تواسي الجراح وتبكي على المفقودين، وإنما امرأة ترقص وتغني.
في الأساطير الإغريقية السيرنات يحرفن جيسون عن مقصده بغنائهن، ولهذا يبكي إعلام السعودية على فرقة الأوركسترا زهرة، وليس على الشعب الأفغاني. تخيّل معي فرقة مولوية أو مقامات مديح نبوي في أمريكا.
جعلت أوروبا نفسها وصية على نساء أفغانستان، وطالبان لم تحكم بعد، كأنّ المرأة تمشي على سجادة حمراء في الدول الأوروبية، قد لا تكون المرأة الأفغانية التي مات عنها زوجها وترملت في أحسن حال، ومحرومة من التعلم في الحرب، لكن إحصاءات عالمية تقول: إنَّ المرأة الأوروبية أسوأ حالاً من المرأة الأفغانية. ففي كل ثلاثة أيام تُقتل امرأة أوروبية من شريكها الجنسي في فرنسا، وتقول الإحصائيات: إن كل امرأة بريطانية تعرضت للتحرش الجنسي.
لم تشرع طالبان في الحكم، وقد أظهرت تسامحاً كبيراً مع المظاهرات، وعاشوراء، ومع خصومها، وعلى رأسهم حامد كرزاي، عميل أمريكا الأول، بل إنّ خصومها يتهمونها في مقالاتهم برجم المرأة وإقامة حدّ السرقة. وقد ضبط رجل سرق السيارات واقتيد إلى السجن بعد صبغ وجهه بالسخام، كان الناقدون يريدون من طالبان أن يمنحوه جائزة حتى يبرهنوا على تقدمهم الحضاري.
إنّ البريداتور الفضائي الغربي لا يرى المرأة إلا إذا كانت مكشوفة سافرة، المرأة الكاسية ليس لها حقوق، ففي الوقت الذي كانت كل "الكائنات الفضائية" الغارقة في الوحل تطالب بحقوق المرأة الأفغانية، وتستقبل لاجئي الأفغان في معسكراتها نكاية بطالبان، تضرب صفحاً عن أهالي محافظة درعا الذين يُقصفون بصواريخ أرض جوّ، وجلّهم من الأطفال والنساء.
ليس لطالبان خبرات في الصور وفنّ الإعلان، فلم تصوّر فيلم إطلاق سراح الكلاب الأسيرة التي خلفها الأمريكان وراءهم أسيرة في أقفاصها، كما لم تصوّر الحركة تحطيمها للطبول والآلات الموسيقية التي يبكي عليها الإعلام العربي. وننتظر مشهد أداء الوزراء القسم أمام رئيس الحكومة، فكل الظنّ أن أمير المؤمنين زاهد في الصور.
سيكون المشهد الأول من نوعه في العالم الجديد.
twitter.com/OmarImaromar