يُعتبر قرار
الهجرة من الوطن الأمّ من أصعب القرارات التي يتّخذها الإنسان في حياته، لأنّها نهاية وتدمير لكلّ الحياة السابقة بحلوها ومرّها، ومجازفة لبناء حياة جديدة في بلد غريب.
عرف العراقيّون الهجرة بشكل واضح بعد الحصار الدوليّ الذي ضُرب على بلادهم بعد غزو الكويت في الثاني من آب/ أغسطس 1990، وقد دفعت المعاناة القاتلة بعض الناس للهروب من البلاد بالطرق القانونيّة وغير القانونية.
والهجرة من
العراق نوعان: الأولى (وهي الأكثر) الإجباريّة، والثانية (وهي الأقلّ) الاختياريّة.
برزت الهجرة الإجباريّة من جديد في المراحل التي تلت العام 2003، وبالذات مع تنامي فرق الموت الرسميّة وغير الرسميّة، حيث اضطرّت مئات آلاف العوائل للفرار بحثا عن أرض آمنة تحفظ حياتهم وشرفهم وكرامتهم، وأغلب هؤلاء ما زالوا حتّى اليوم في ديار الغربة، وحكومات العراق المتعاقبة أهملتهم وكأنّها تخلّصت منهم، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من مرارة وآلام.
أما الهجرة الاختياريّة، فتتمثّل بهؤلاء الذين خرجوا من العراق بحثا عن حياة جديدة، وبعضهم يدّعون بأنّهم مهدّدون ومضطهدون. وبحسب معلوماتي فإنّ بعض أفراد المليشيات وصلوا إلى أوروبا بحجّة أنّهم مهددون بالقتل.
غالبيّة عمليّات تهريب العراقيّين تتمّ عبر تركيا واليونان وربّما إيران، وكافّة هذه الدول تمكّنت بشكل واضح من إنهاء جرائم التهريب لأوروبا.
واليوم تبدو هنالك بعض الطرق الجديدة للتهريب، حيث ذكرت تقارير صحفيّة قبل أيّام أنّ بعض العراقيّين يسافرون إلى بيلاروسيا للسياحة ومنها يتسلّلون إلى ليتوانيا الأوروبيّة.
القضيّة أن بيلاروسيّا تعتبر اليوم الممرّ الجديد والمفضّل للعراقيّين نحو أوروبا، وتأشيرة الدخول إليها سهلة جداً، لذلك فهي تعتبر آمنة ورخيصة (تذكرة السفر أقل من 700 دولار أمريكيّ) قياسا بالتهريب المخيف والقاتل عبر البحر المتوسّط وبحر إيجة بين تركيا واليونان!
وقد ذكرت الحكومة الليتوانيّة أنّها تحتجز أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر دخلوا البلاد بطريقة غير شرعيّة، وأكثرهم من العراقيّين، وأكّدت مطلع آب/ أغسطس 2021 أنّها احتجزت أكثر من 170 عراقيّا على حدودها مع بيلاروسيا.
التَساهُل في دخول المهاجرين إلى أوروبا عبر بلاروسيا ليس عفويّا، حيث تعمل بيلاروسيا على استخدام ورقة المهاجرين للردّ على فرض الاتحاد الأوروبيّ، في نهاية حزيران/ يونيو الماضي، عقوبات ضدّ رئيسها أليكسندر لوكاشينكو، المتّهم بقمع المتظاهرين ضدّه بشدّة.
وتنطلق من العراق لبيلاروسيا أكثر من عشر رحلات شهريّا محمّلة بما لا يقلّ عن خمسة آلاف مسافر أو مهاجر!
وتبرّر الخارجيّة العراقيّة الأمر بأنّ "بعض السيّاح العراقيّين يتمّ التغرير بهم من قبل عصابات الهجرة غير الشرعيّة".
القرار اللافت للنظر أنّ الاتّحاد الأوروبيّ وبحسب المتحدّث باسم وزير خارجيّة الاتّحاد، أدالبرت يانز، أكّد بأنّ غالبيّة المهاجرين إلى ليتوانيا هم مواطنون عراقيّون، وأنّ هؤلاء لن يمنحوا حقّ
اللجوء!
وفي جريمة غامضة عثر حرس الحدود البيلاروسيّ، الأربعاء الماضي، على مهاجر عراقيّ قُتل بقسوة في بلدة ميدينينكاي، الحدوديّة مع ليتوانيا!
الحقيقة أنّ المهاجرين العراقيّين غير المضطرين هم من الباحثين عن "الرفاهيّة المجانيّة" التي توفّرها بعض دول اللجوء الأوروبيّة، وقد أثّروا بهذه الخطوة "الأنانيّة" على المحتاجين فعلا للجوء من المطاردين، سواء أكانوا من السياسيّين أو الصحفيّين أو غيرهم.
إنّ الحلول الترقيعيّة وغياب سياسة الحسم للعوامل الآكلة للتعايش المجتمعيّ، ربّما، دفعت بعض الناس للملل والضجر ومحاولة الهروب من الواقع، إلا أنّني أنظر للأمر من منظار آخر، ويتمثّل بضرورة النظر لمشروع الهجرة غير الاضطراريّة على أنّها ضربة قاضية للوطن، حيث أنّه ومع كون الإنسان حرّا في اختيار طريق حياته، لكنّ الواجب الأخلاقيّ والوطنيّ يتطلّب من المواطنين الأنقياء المشاركة في بناء البلد رغم الظروف الصعبة، وليس الهروب منه بأعذار سقيمة، وبهذا هم يُساهمون بطريقة مباشرة في دعم القوى الشرّيرة المخرّبة للوطن.
لا خلاف في أنّ حكومات بغداد فشلت في توفير أبسط مقوّمات الحياة الآمنة والمطمئنّة، وهنالك شحّ في فرص العمل، مع تنامي الفساد الماليّ والإداريّ، وتغول النظام العشائريّ بوضوح في كلّ مرافق الدولة، لكنّ جميع هذه الأسباب لا يمكن اعتبارها مبرّرات مقنعة أو أخلاقيّة لترك البلاد وعدم محاولة المساهمة في عجلة التغيير، على الرغم من الصعوبات المتنامية.
إنّ الحياة القاسية في الوطن أمْتَع من الحياة الناعمة الذليلة في بلدان اللجوء التي تعمل وفقا لخطّة استراتيجيّة؛ غايتها تمييع أبناء المهاجرين في مجتمعاتهم ومصادرة طاقاتهم في المستقبل!
فهل سنساهم في هذه المؤامرة على بلداننا؟
twitter.com/dr_jasemj67