جاء المنظر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي بمفهوم فارق ورائد للمثقف،
حين صنفه كمثقف عضوي، ذلك المثقف العضوي هو الذي لديه دور تنظيمي ثقافي إيدلوجي في
المجتمع، وطبيعة مستمدة من النواحي التقنية للوظائف الإنتاجية الأساسية، التي يشارك
المثقف في تطويرها، وبناء نمط خاص بالطبقة التي ينتمي إليها، فهو مثقف ينتمي لطبقته،
ويمنحها وعياً بمهامها، ويدافع عن مصالحها، وإن انطبقت تلك المواصفات على مثقف عربي
فمن القلائل سيكون
غسان كنفاني، أديباً وأستاذاً للأطفال في المخيمات وفدائي في الجبهة
الشعبية وناقداً يعرف العالم بإنتاج بلاده الثقافي وصحفياً، لذلك كان اغتيال غسان كنفاني
وبينما تحل ذكراه التاسعة والأربعين، حدثاً فارقاً وخسارة كبرى للقضية
الفلسطينية.
ما تبقى من غسان
تبقى من غسان كل شيء، إرثه الثقافي والثوري، فكلما استعدناه اكتشفنا
فيه ما لم نفهمه من قبل، وكلما اشتدت عتمة الاغتراب وعتمة الكتابة اكتشفنا أن بيارقه
وحدها تبقى، فها هي رجال في الشمس تتكرر بوصفها مثالاً حياً للعذاب السرمدي للفلسطيني،
والتيه الجارح الذي سقط فيه.
صور غسان الفلسطيني بصور كانت متطورة عن زمن كتابته، كان علامة مميزة
في مزج فلسطين بإنسانها ومكانها وزمانها وقضيتها وتحويلها إلى قضية إنسانية بعيدة الأنحاء
بكل موازين النقد والأنسنة.
عندما اختار غسان فلسطين موضوعاً أساسياً لأدبه ونتاج روحه، لم يكن
خياره مبنياً على الانتقاء ولكن بالضرورة، كان خياره الوحيد، فلقد كان معذباً ومغموساً
بالجرح الفلسطيني الذي عاناه طفلاً وشاباً، وما تلاها من أعوام طويلة للغربة والتشرد
والشتات والبحث عن المستحيل.
واختار غسان الشكل السردي مدخلا أساسيا للتعبير عن قضيته، كأنه رأى
المأساة في صورتها الموضوعية، حكاية ممتلئة بالجراح التي يجب تطهيرها وتطبيبها بتحويلها
لعلامات فنية، ونواميس إنسانية كبرى، بدلاً أن تذبل وتفنى، كما يموت كل شيء فلسطيني،
لذلك جاء أبطاله من الفقراء وأبناء المخيمات والمشردين الباحثين عن فلسطين في العيش،
في الدار، في رغيف الخبز، في الطريق.
لقد اعتمد غسان أن يوازن بين الفعل والكلمة، فكانت كلمته محترقة تضيء
الطريق للآخرين، وكان فعله حاضراً حياً في مواقفه اليومية تجاه أبناء المخيم وتجاه
النشاط الفعلي في جبهة التحرير، واستطاع غسان عبر هذا الدمج بين الكلمة والفعل أن يبني
تراجيديا مطولة للعذاب والشتات الفلسطيني، فقدم صورة الفداء والتضحية والثورة، وكل
صور الإنسان المتمزق بخروجه من وطنه، لقد عاش ما كتبه، فكتب ما عاشه.
انتصر غسان لفلسطين وإنسانها، ولكنه لم يكن في موقف التمجيد والمديح،
وإنما تعمق في قراءة شخصياته، وفي أدبه، نرى الفلسطيني لا كمتطهر بريء على الدوام،
وإنما شخص يجمع قدراً واسعاً من النقائض، الطهر والدنس، الشرف والحمقة، الصدق والكذب،
الاستغلال والإخلاص، والكبرياء والتخاذل، فقد كان فلسطيني غسان ابناً خالصاً للتاريخ
المتأرجح بين كل معاني الإنسانية.
إن أدب غسان كنفاني يصور المسيرة التاريخية للقضية الفلسطينية في ثوب
فني جميل، مسيرة شعب أعزل أجبر على الدفاع عن وطنه وهويته ضد أعتى امبراطوريتين استعماريتين
في القرن العشرين، دعمتا حركة عنصرية متعصبة تقوم على أساس لاهوتي لا واقعي، تدمر شعباً
من أجل أن تقيم دولة.
رصاصات ونبوءات
حينما اغتيل غسان سنة 72، كانت الأمة العربية تخضع كما لم تخضع من قبل
أو من بعد تحت سطوة توسع الكيان الصهيوني الذي سيطر على مناطق عدة بعد نكسة حزيران،
وذلك الجو الذي كان لا يؤشر بأن أحداً ربما يتقبل يوماً هذا الكيان الغاصب، بعد أن
طالت أياديه أبعد من فلسطين، ولم تعد قضيته قضية وطن قومي، ولكنه استيطان يتمدد على
ما استطاعت أياديه أن تطوله، أطلق غسان رصاصته ونبوءته الأولى حين قال: "أما قلت
لكم يوماً: ستصبح الخيانة وجهة نظر".
وها نحن اليوم نقف أمام هذه المقولة في الوطن العربي رغم أنه أطلقها
في سنوات الضباب والغضب من إسرائيل، فخرجت مصر من الزورق في كامب ديفيد، وأعقب خروجها
خروج الأردن، وتهادنت سوريا، ورضت فتح بدولة بانتوستان، وركعت دول الخليج، وكلها معاهدات
وخطوات تجاه مصطلحات زائفة أطلقها مثقفون مزيفون تسمى معاهدات السلام، وأصبحت الخيانة،
حنكة سياسية، أو واقعية سياسية، وأصبحت الخيانة كل شيء إلا أن تصبح خيانة.
لقد كان غسان كما لقبه يوسف إدريس، أول كاتب يعيش قضيته إلى حد الشهادة،
لم يكن من أصحاب الشعارات الطنانة الفضفاضة ولا الخطابات الجوفاء، لقد كان غسان ثورياً
صادقاً، آمن أنه لا يمكن لثورة أن تقوم وتنهض وتستمر دون نظرية ثورية، تعتمد في الأساس
على الجماهير الكادحة وطبقاتها المسحوقة، وبعد وفاته تحولت
الثورة إلى وجهات آراء نخب
كانت فيما مضى ثورية، اختزلت مصير شعباً كاملاً في استعداداتها لتقديم تنازلات معينة
مقابل مصالح معينة، لقد قتلوا الثورة حتى أصبحت ثورة "الأعمى والأطرش" ثورة
تمنيات وأدعية، لا إرادة وإيمان وفعل.
لقد عاش غسان كنفاني 36 عاماً، بدأ حياته كأديب في السابعة والعشرين
من عمره، وبذل نفسه آخر تسعة سنين من حياته من أجل وطنه، تسعة سنوات هي عمر عطائه الأدبي
وقدم فيها ما قدم، الشاب الذي ترعرع في أحد المخيمات مختزلاً واقعه ومفرداته وضيقه
ومعيشته مع كثيرين منتظراً كرت الإعاشة، وعمل في دمشق الأونروا والكويت وبيروت رئيساً
للصحف، وأصدر ثمانية عشر كتاباً ترجمت إلى سبع عشرة لغة في أكثر من عشرين بلداً، وحولت
أعماله إلى المسرح والسينما ومازالت.
ما كان سيقدم إذا امتد به العمر أكثر، لذا كانت خسارته نكبة أخرى غير
النكبة.
لقد صنع غسان حلماً كبيراً حقيقياً للحياة، وسعادة بالنضال، ربى من
خلالها أجيالاً من المثقفين الفلسطينيين والعرب على هذا الطريق، فظل يواصل القتال الروحاني
والفكري إلى الأبد.
تسليع غسان
بنظرة متشائمة للواقع نرى أنه تم تسليع غسان كرمز سلعي يخدم سوق رأس
المال كما حدث لجيفارا من قبله، فأصبحت صورة غسان على الكثير من الأكواب والقمصان،
وتزين الجدران لتعطي نمطاً ثورياً للمقاهي لتجتذب الزبائن، وتباع شرائط وشارات مكتوبة
على اقتباساته.
ولكن ذلك التسليع يحمل إيجابيته في طيات سلبياته، فلو لم يكن جيفارا
بسيرته، لم يكن ليصبح رمزاً، ولم يكن ليتجدد ويتعرف عليه الناس في كل زمان، وهذا هو
أيضاً ما يمكن أن يقدمه تسليع وترميز غسان كنفاني لسيرته، ففي النهاية حين تنتشر صوره
في كل مكان، وحين يتم قولبته في الأدب المقاوم الراعي والمحتكر للقضية الفلسطينية،
سيثير فضول أجيال تجدد دائماً للتعرف عليه، ومن خلال التعرف عليه، ستتعرف حتماً على
قضية فلسطينية كاملة، وربما يساهم تسليع كنفاني ورمزنته في استقطاب أجيال جديدة تحمل
اللواء، وتعيد له الاعتبار وتحفظ سيرته من النسيان كما نسي الكثيرين وما كانوا يستحقون
أن ينسوا.
إن ظاهرة غسان كنفاني كسلعة خاصة بعد ثورات الربيع العربي، ظاهرة لها
أكثر مما عليها، فإن كانت قد اختزلت المناضل في ماركة تسويقية، فقد عرفت ملايين لم
تكن تعرفه، وعرفت أن غسان كان شهيداً صادقاً، ثائراً لا يكل، قتلته كلماته، وهذا دليل
بطولته وشرفه الخالدين.