هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اليوم وفي العام 2021 وبالرغم من الوباء المستعصي تثار في أوروبا والولايات المتحدة والصين واليابان نقاشات وصدامات فكرية حول هوية الأمم وجيناتها، ففي فرنسا مثلا وبمناسبة الانتخابات الإقليمية ليوم الأحد الماضي وإخفاق الحزب اليميني العنصري (التجمع الوطني)، تسابق المعلقون والمفكرون والسياسيون لتحليل ظاهرة فشل اليمين الذي يدعي الدفاع عن الهوية المسيحية والعرقية للشعب الفرنسي ضد المهاجرين والمسلمين خاصة واحتدم النقاش حول محور (ما هي هوية فرنسا؟ هل الاقتصار على الثقافة المسيحية والعرق الأبيض أم هي في تعدد الأصول المكونة للمجتمع الفرنسي؟) ومن جهة أخرى في نفس فرنسا وقع حجر حركة يمينية متعصبة اسمها (أنصار الهوية) لأن المخابرات السياسية الفرنسية اكتشفت لديها مخططات للهجوم المسلح على المسلمين.
أما نحن العرب عندما فتحنا عيوننا (جيل ما بعد الاستقلال العربي عن الاستعمار البريطاني والفرنسي) أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال وأسسنا في تونس تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي، إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى وكان زعيم هذا التيار هو المناضل الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه.. وقد اجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لمدة واحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987 (بداية الاستبداد وتوطين التغريب باسم مقاومة التطرف!)
اغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة وتاريخه حافل بالإنجازات و خدمة الدولة في عهد بورقيبة بوزارة التربية والتعليم ثم الدفاع الوطني ثم الصحة، فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم، حيث أعلينا من شأن اللغة العربية وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم والآداب والفنون والفلسفة والسياسة بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو وفولتير وفيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا لتاريخنا وبالتالي نشأ جيلنا وهو جاهل تقريبا بكل ما ومن صنع هويته وأسس حضارته.. فقد غادر الاستعمار أرضنا وظل مستعبدا أرواحنا ووجداننا.
وعندما اطلعنا على أسباب نهضة اليابان أدركنا أن هذا الشعب رغم الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إستطاع أن يحول اليأس إلى أمل والهزيمة إلى نصر لأنه تشبث بأصوله الحضارية ولم يفرط في تقاليده بل أخذ من الغرب المنتصر أسباب العلوم والتكنولوجيا فقط وتفوق على الغرب نفسه بينما نحن العرب فرطنا في لغتنا وأمجادنا وتشبهنا بالغالبين كما قال علامتنا ابن خلدون.
نحن العرب عندما فتحنا عيوننا (جيل ما بعد الاستقلال العربي عن الاستعمار البريطاني والفرنسي) أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال وأسسنا في تونس تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي
وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الغربية الاستعمارية تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الاستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل، فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الإضطهاد والملاحقات والمنافي والسجون.. غفر الله لمن شردنا وأجهض رسالة التأصيل فقد شرده الله ونفاه وأذاقه بعض ما نالنا من ظلم وقهر!
وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نرى اعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض، حيث عادت مشكلة الحضارة تطفو على سطح الخطاب السياسي بعد أن أشبعها العلامة الجزائري مالك بن نبي درسا وتعميقا في السنينيات. وهذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة التقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة المستقبل على ضوئها لا بمعزل عنها و لا ضدها وهو الخيار الأخطر.
ليس من الأمانة العلمية أن نعلن انفرادنا نحن العرب باستعادة الوعي بقضية الحضارة والهوية فالعالم من حولنا شرقا وغربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية مع اختلاف المنطلقات وتباين الأهداف. فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الاسترتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي وتوسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها ودعوة الأمم الأخرى للاستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى.
وفي الحقيقة لم يبدع برنارد لويس ولا صامويل هنتنغتون ولا فرانسيس فوكوياما نظريات جديدة لكنهم أعادوا صياغة النظريات الاستعمارية والاستشراقية القديمة في شكل معاصر وصبوها في قوالب اللغة الحديثة المعولمة المقبولة. فجدهم الفرنسي "إرنست رونان Ernest Renan" كان يقول في أواخر القرن التاسع عشر: "إن من واجب الحضارة الغربية أن تمدن المتوحشين وتخضعهم بالقوة لسادتهم البيض حتى يتعلموا قواعد المدنية ويتمتعوا بثمارها فتلك رسالة الجنس الأبيض".
عندما اطلعنا على أسباب نهضة اليابان أدركنا أن هذا الشعب رغم الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إستطاع أن يحول اليأس إلى أمل والهزيمة إلى نصر لأنه تشبث بأصوله الحضارية ولم يفرط في تقاليده بل أخذ من الغرب المنتصر أسباب العلوم والتكنولوجيا فقط وتفوق على الغرب نفسه بينما نحن العرب فرطنا في لغتنا وأمجادنا
ووجد الاستعمار في هذا المنظر (من التنظير) وسواه كثيرون ما به يبررون الغزو والاحتلال لنصف الإنسانية بل وما يبرر الاستعباد والنخاسة وتجارة الرقيق. ولم يضف هنتنغتون إلى النظرية الاستعمارية سوى شكلها الجديد، أي الإقرار بأن عصرنا الراهن لم يعد عصر الحروب العسكرية التقليدية بل أصبح عصر "صدام الحضارات". وبالطبع فإن هذا الصدام حسب استنتاجهم سيتوج بانتصار الحضارة الغربية.
وكذلك فعل برنارد لويس بأكثر حدة وتصميما إلى درجة أنه أصبح المرجع الأساسي لسياسة جورج بوش الابن باعترافه يستلهم منه عقيدته العسكرية في حربيه على أفغانستان والعراق، أما فرانسيس فوكوياما فحسم المعضلة بالانحياز إلى الحل النهائي لنفس هذا الصراع بإعلان "نهاية التاريخ" بسيادة حرية السوق والقيم الليبرالية في العالم.
وسبق للرئيس الأمريكي الراحل نيكسن أن نعت انتصار العالم الحر على المعسكر الشيوعي بأنه نصر بدون حرب.
من نافلة القول التأكيد أن العقيدة الحضارية للمحافظين الجدد إنما هي محاولة تطبيق نظريات هؤلاء المفكرين على واقع العلاقات الدولية ثم العمل على إعادة ترتيب هذه العلاقات الدولية إما بالدبلوماسية أو بالحرب على أسس مبتكرة تتوج الولايات المتحدة الأمريكية قاطرة جديدة للعالم بعد أن انتهت صلاحية معاهدة سايكس ـ بيكو بانتهاء التفوق البريطاني الفرنسي وطي صفحة القرن العشرين إلى غير رجعة.