كتاب عربي 21

لماذا تتوحّش الكلمة الخبيثة؟

ساري عرابي
1300x600
1300x600
جعل الله تعالى للكلمة الطيبة أربع صفات، تشبيها لها بالشجرة الطيبة، فهي طيبة، ولعلّ طيبها المقصود هنا أنها طيبة من كلّ وجه، فلا شيء ينتقص من لذّتها، وهي أصلها ثابت فهي باقية، لا شيء يقوى على اجتثاثها واقتلاعها وإزالتها، وهي فرعها في السماء، متعالية على أوبئة الأرض، ظاهرة للناس من مسافات بعيدة، قويّة، يقوى أصلها على الارتفاع بفرعها إلى السماء، وهي تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها، فلا يقتصر نفعها على زمن دون آخر.

وعلى عكس الكلمة الطيبة، الكلمة الخبيثة مجتثّة لا قرار لها، ولمّا كان الأمر كذلك، ظهر أنّ الكلمة الطيبة قويّة في نفسها، تقوى على الصمود، ولو تجرّدت من أدوات القوّة الخارجية، بينما تستقوي الكلمة الخبيثة بأدوات قوّة خارجية، بالمكر والسلاح والمال والنفوذ ومهارات التخييل من كذب وتحريف وتزيين الشهوات واستثارة غرائز الخوف.

وهذه المعركة غير المتكافئة بين الكلمة العزلاء المجرّدة بذاتها، والكلمة المدججة بغيرها، وما ينجم عنها من بقاء الكلمة العزلاء؛ صمودها في الراهن، أو انتقال أثرها في المكان والزمان، مصداق كاف في الواقع لهذا المعنى المجرد.
المعركة غير المتكافئة بين الكلمة العزلاء المجرّدة بذاتها، والكلمة المدججة بغيرها، وما ينجم عنها من بقاء الكلمة العزلاء؛ صمودها في الراهن، أو انتقال أثرها في المكان والزمان، مصداق كاف في الواقع لهذا المعنى المجرد

لا يعني ذلك ألا يسعى أصحاب الكلمة الطيبة لتعزيزها بأدوات قوّة خارجية، فالانتصار الماديّ أبلغ في إظهار مزايا قوّتها. بيد أنّ إدراك هذا المعنى (واللذّة في المعنى) يوفّر لأصحابها أسباب الصمود والاستمرار، وهذا هو المعنى الذي يمنع اليأس. فالمعركة غير متكافئة ماديّا، ولكنها محسومة معنويّا، وأمّا ماديّا، فالنتائج غير مرتبطة لا بزمان ولا بمكان، فكل انحياز للكلمة الطيبة سيؤتي أكله؛ لاحظ ذلك القائل أم لا، إذ قد تظهر النتائج بعده، أو في مكان آخر، فما ينفع الناس يمكث في الأرض.

هذا البقاء للكلمة الطيبة وصمود أصحابها، هو نفسه مما يستثير انتفاش أدوات القوّة للكلمة الخبيثة وأصحابها، فلا يبدو لهم صمود المجرّدين من القوّة الخارجية مفهوما، كما يثير بقاؤها فزعهم. ويبدو أنّ ثمّة مقابلة غير واعية تحصل في نفوسهم، بين اضطرارهم للقوّة الخارجية، أيْ أدوات العنف والقمع والترهيب والترغيب والابتزاز بالأرزاق والتشويه، وقوّة الكلمة الطيبة الذاتيّة، مما يستفزّ فيهم غرائز الغضب والعنف.

في النظم السياسية، إذا فشا فيها الخبث، أي ساد فيها الفساد وصار هو القاعدة الرئيسة للحركة والعمل، أو منطق الحركة الوحيد، فإنّ المنظومة حينئذ تتسم بحساسية سلبية إزاء أي محاولة إصلاحية، أو ملاحظة نقديّة، فلا يمكن للقاعدة السائدة قبول مفردات مختلفة عن منطقها.

في النظم السياسية، إذا فشا فيها الخبث، أي ساد فيها الفساد وصار هو القاعدة الرئيسة للحركة والعمل، أو منطق الحركة الوحيد، فإنّ المنظومة حينئذ تتسم بحساسية سلبية إزاء أي محاولة إصلاحية، أو ملاحظة نقديّة، فلا يمكن للقاعدة السائدة قبول مفردات مختلفة عن منطقها
فطبيعة الفساد لا تقبل أن تستحيل إلى صلاح، فإمّا أن تبتلع تلك المفردات بقوّة الشيوع وتدمجها في النظام، أو تدفعها للاغتراب واليأس والإحساس العميق بالعجز، أو أن تقمعها بالعنف؛ في حال باتت المنظومة تشعر بالانكشاف، أو تخشى من تمدّد تلك المفردات الإصلاحية والنقديّة، بعدما عجزت عن استيعابها وتذويبها، أو عن إغراقها في الاغتراب. ولأنّ الأسس الفلسفية لمنظومة الفساد ضعيفة في نفسها (كلمة خبيثة)، فإنّها ولا بدّ أن تلجأ لأدوات القوّة الخارجية. فالكلمة الخبيثة في أصل الأمر لا تعتمد على قوّتها الذاتية، فلن تعتمد عليها وهي تشعر بما يهدّد منظومتها، أو يستفزّ إحساسها الذاتي بالضعف إزاء قوّة الحقّ المجرّدة.

قال الله في كتابه: "إِنَّ اللَّهَ لا يُصلِحُ عَمَلَ المُفسِدينَ"، أي يترك الفساد وشأنه، فيضعُف بمجرّده، لأنه فاسد خبيث، يتعفّن أكثر، ولأنّه والحالة هذه يزداد توحّشا وعنفا، لإدراكه ضعفه الذاتيّ، ولتوتر حساسيته تجاه المفردات الإصلاحية المباينة لطبيعته، يكون التدبير الإلهي الخفي، "وَيُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَو كَرِهَ المُجرِمونَ"، ولا يلزم من أصحاب الكلمة الطيبة حينئذ إلا مزيد من الصبر، واليقين بأن جهدهم مثمر في الواقع ولو لم يعاينوه شاخصا في الوقت.

twitter.com/sariorabi
التعليقات (1)
حسان
الثلاثاء، 06-07-2021 07:50 م
مقال جميل جدا يا ريت لو تكثر من هالنوع من الكتابات