إنّ تطوّرات الأحداث الأخيرة في إقليم
التيغراي أظهرت تفوق التيغراي العسكري والذي مكّنهم من السيطرة الكاملة في الإقليم مرة أخرى، بعد طرد الجيش الفيدرالي وحلفائه من الإريتريين ومليشيات الأمهرة في وقت وجيزة. وهنا يتساءل المراقبون عن العوامل التي تقف وراء هذا التقدم السريع للتيغراي، هل يعود ذلك إلى عوامل ذاتية للتيغراي؟ أم إلى أخطاء إستراتيجية أرتكبها آبي أحمد؟ أم إلى العوامل الخارجية؟ وبعد هذه التطوّرات ما هي التحديات المصيرية التي يواجهها إقليم التيغراي؟
يعود جذور هذه المشكلة إلى صراع قوميتا الأمهرة والتيغراي عبر التاريخ في إثيوبيا التي حكمتا البلاد بالتوالي بالمغالبة اعتمادا على الركائز الأربعة: الكنيسة القبطية، والصفوية القومية المسيحية، وضمانات القوى الغربية، وعقلية التوسع في أراضي المجموعات الأخرى والتعامل معها بالقسوة والاضطهاد.
وكانت السيطرة لمجموعة الأمهرة في مجريات الأحداث في إثيوبيا إلى عام 1991م، بعدها انتقل الحكم إلى التيغراي بقيادة جبهة تحرير التيغراي التي قامت بدورها بتمكين قومية التيغراي التي تمثل 6 في المئة من السكان من السيطرة في الحياة العامة في إثيوبيا خلال 28 عاما. وبعد موت رئيس الوزراء ميليس زيناوي وتسلم الحكم ديسالين المنحدر من الجنوب، والذي استقال من منصبه لعدم رغبته مسايرة مجموعة التيغراي المسيطرة في مفاصلة الدولة، ولم يُرد أيضا تحمّل ضغط المظاهرات الشعبية من الأرومو التي كانت في الأصل موجهة إلى المجموعة التيغراي المسيطرة في حكم البلاد. وإثر استقالته انتقلت السلطة إلى آبي أحمد في نيسان/ أبريل 2018م.
وفور وصوله إلى الحكم، قام آبي أحمد بإصلاحات داخلية وخارجية نجح في بعضها وفشل في الأخرى. ومن الملفات التي فشل فيها عدم نجاحه في إدارة الصراع مع قيادات التيغراي وتبنيه السياسة الصفرية معهم، والتي تطوّرت إلى مواجهات عسكرية. وعلى إثرها استولى الجيش الفيدرالي على المدن الرئيسية في الإقليم مسنودا بالقوات الإريترية ومليشيات الأمهرة، وانسحاب قوات التيغراي إلى أطراف المدن والأرياف، والتي قامت بإعادة تنظيم قوتها في خلال الأشهر الثمانية الماضية، فبدأت الهجوم الكاسح من عدة محاور في المناطق التي تتواجد فيها القوات الإريترية ومليشيات الأمهرة والجيش الفيدرالي الإثيوبي. وخلال فترة وجيزة استطاعت تحقيق نصر عسكري سريع وسيطرت في الإقليم.
ويعود انتصار التيغراي الأخير إلى عاملين داخلي وآخر خارجي؛ فالداخلي يعود إلى قوة التيغراي الذاتية المتمثلة في الدعم الشعبي الجارف من سكان الإقليم، وتوفر السلاح والخبرة في الحرب، ومعرفة تفصيلات العدو، والتراث الشعبي في مقاومة الغزاة، والتضاريس الجغرافية، وانفتاح بؤر صراعات أخرى شتتت قوة الجيش الفيدرالي في إقليم أرومو وبني شنقول وفي مناطق الفشقة مع السودان.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك عيوب في استراتيجية آبي أحمد الحربية في إقليم التيغراي القائمة على توظيف مليشيات الأمهرة، والاستعانة بالرئيس الإريتري أسياس أفورقي، العدو اللدود لقيادات التيغراي الحالية، واستخدام سلاح الطائرات المسيّرة في هذه المعركة، وعزل الإقليم عن العالم لحجب المعلومات عما يجري في أرض المعركة حتى يتم حسم عسكري سريع؛ مع إبعاد القضية من التدويل وعدم إظهار مأساة المدنيين حتى لا تتعرض الحكومة الفيدرالية للضغط من المجتمع الدولي.
فالناظر إلى هذه الاستراتجية يلاحظ أنّها تحمل في طياتها عوامل ضعف، فباستعانة آبي أحمد بالقوات الإريترية من خارج إثيوبيا حوّل الصراع إلى صراع إقليم. وكذلك السماح لمليشيات الأمهرة بالمشاركة في المعركة ضد التيغراي دون الاكتراث للعداء التاريخي بين القوميتين. أضف إلى ذلك ما تعرض له التيغراي من تشويه عبر الوسائط الإعلامية الإثيوبية المختلفة، وتباعا استهدافهم في مختلف القطاعات العسكرية والمدنية دون تمييز. وتحوّل الصراع إلى معركة قومية، وليس كما ادعى آبي أحمد ضد مجموعة خارجة عن القانون، وهنا استطاعت جبهة تحرير التيغراي توحيد القومية في جبهة واحدة واستنهاض تراثهم الشعبي في مقاومة الغزاة.
وخارجيا، استطاعت الدبلوماسية التيغراوية المتمرسة إقناع المجتمع الدولي بأن سكان إقليم التيغراي يتعرضون إلى الإبادة العرقية من قوة خارجية ومن مليشيات الأمهرة والجيش الفيدرالي، وتم تزويد المنظمات الدولية بأدلة أولية حول ذلك، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تستنفر على وجه السرعة للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية مثل الذي حدث في رواندا والبوسنة.. إلخ.
وتم الضغط على الحكومة الفيدرالية للسماح فوراً للمنظمات الإنسانية لتقديم المعونات الإنسانية للسكان والحقوقية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت في الإقليم، وسحب القوات الإريترية ومليشيات الأمهرة من الإقليم على وجهة السرعة. ومارست الدول الكبرى الضغط الشديد على آبي أحمد، فيما أنّ إثيوبيا لا تملك هامش المناورة أمام هذه الضغوط بسبب ملفاتها الأخرى المفتوحة؛ كملف
سد النهضة، وصراعها في منطقة الفشقة مع السودان، وملف المعونات والمنح التي تقدم لها سنويا والتي تغطي جزءا كبيرا من ميزانيتها.
لكل هذه العوامل وغيرها مجتمعة لم يستطيع آبي أحمد الصمود أمام الضغوط الدولية، فانهار بتلك السرعة. وهذا ما أشار إليه وزير الشؤن الدولة في الخارجية الإثيوبية أثناء مؤتمره الصحفي؛ بالمهددات الخارجية التي لا يمكن فصلها عن الصراع في التيغراي.
لكن في المقابل أيضا، فإن التيغراي على الرغم من التقدم العسكرية يواجهون تحديات كبيرة.
التيغراي والتحديات المصيرية
تواجهه قيادات التيغراي تحديات آنية وأخرى استراتيجية، فالملفات الآنية تتمثل في توفير ضروريات الحياة في الإقليم وإعادة اللاجئين وتعمير ما دمرته الحرب، وكيفية التعامل مع الحكومة الفيدرالية التي سعت لإبادتهم متحالفة مع قوى خارجية، وهي لا زالت تملك إمكانية إبقاء الحصار الخانق في الإقليم برا وجوا، وتحد آخر هو إدارة ملف الصراع مع النظام الإريتري الذي يقع على مرمى حجر من الحدود.
واستراتيجيا، التيغراي أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها: البقاء مع إثيوبيا الموحدة ويكون لهم فيها حجمهم الطبيعي في الثروة والسلطة، والذي يمثل 6 في المئة من السكان، والشروع مع شركائهم الآخرين في معالجة أسباب الأحقاد والعدوات التاريخية بين المكوّنات في إثيوبيا.
أما الخيار الثاني فهو الاستقلال تام عن إثيوبيا وتأسيس دولة التيغراي، وهذا الخيار يواجه تحديات ذاتية وأخرى موضوعية، وهي تتمثل في الشكوك القائمة في امتلاك الإقليم مقوّمات الدولة من الناحية الاقتصادية والجغرافية بسبب انحصاره في جبل استهلكت كل موارده، وسياسيا؛ فهل هذا الخيار يجد قبولا واعترافا من القوى الدولية والإقليمية التي لا ترغب في فتح باب التفكيك والتركيب في القارة الأفريقية؟
أما الخيار الثالث فهو أن تتفاوض قيادة التيغراي مع الحكومة الفيدرالية في توسيع صلاحيات الحكم في الإقليم، مثل نظام كونفدرالي أو حكم ذاتي وما شابه ذلك، وهذا ليس سهلا ولكنه ممكن.