قصة
فلسطين باختصار هي قصة صعود ونهوض الأمة، وعلى مدار التاريخ كانت باروميتر لحال الأمة، وفي كل مرة ذلت فلسطين ذل العرب والمسلمون أيضا بشكل عام، فهي مفتاح عزتهم وذلهم، بل إن من يسيطر عليها يسيطر على العالم، فكما هي بوابة السماء، هي أيضا بوابة الأرض. وبهذا المعنى فقد خص الله أهلها بميزة حملتهم كلفة مضاعفة، ليس للحفاظ على أرضهم فحسب، بل للحفاظ على مفتاح كرامة الأمة، فهم حراس البوابة، ودمهم كان على الدوام وقود حريتها!
حين ننتبه إلى جذر القصة المعاصر، نفهم كثيرا من الأشياء الملغزة، تعالوا بنا نستدير قليلا إلى التاريخ القريب..
في الموروثات الشعبية يقولون: "عدو جدك ما بودك!" ومن باب التجوز، نستذكر هنا الجد الروحي للصهيونية، مع جدنا الرمزي في زمن هذا الجد: السلطان
عبد الحميد الثاني، هذا الجد الذي ارتبط اسمه في المخيال الشعبي والنخبوي بالتخلف، فكان من يُراد أن يوصف عقله بالتحجر، يقال له "حميدي".. هذا "الجد" رحمه الله، كما أصبح معروفا للجميع ومما لم نتعلمه في المدارس، هو من أخّر قيام المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين، ومنع بيع أرض فلسطين لليهود بمراسيم سلطانية صارمة، نابعة من وعي إسلامي عميق بقيمة هذه الأرض، ومركزيتها بالنسبة للأمة، رغم سخاء العرض الذي قدمه أبو الصهيونية هيرتزل.
يقول التاريخ إن هيرتزل قضى شهرا في الأستانة يتحايل للقاء السلطان، وقد حاول إقناع صديقه نيوزلينسكي ذي العلاقة الحسنة والطيبة مع السلطان، بالتوسط له لدى السلطان للقائه. قبِل عبد الحميد الثاني وساطة نيوزلينسكي، وقدم وصديقه هيرتزل في حزيران/ يونيو 1896 والتقيا بالسلطان عبد الحميد الثاني.
وكان السلطان يحرص على توثيق جميع اجتماعاته ولقاءاته، وحسب الوثيقة التي وثقت هذا الاجتماع؛ بدأ هيرتزل قوله بتعبيره عن خالص احترامه وتقديره للسلطان الكبير عبد الحميد الثاني، ومن ثم تطرق إلى موضوع فلسطين قائلًا: "إن الأمة اليهودية ومنذ زمن طويل تتعرض لأقوى وأبشع أنواع الذل والاستحقار والإقصاء، ومن أجل تخليصها من أنواع العذاب الشرسة هذه، فإن كل ما نريده هو قبولكم لهجرتهم لفلسطين؛ لا لشيء سوى إنقاذهم من التمييز البشع الذي يتعرضون له في أوروبا والقيصرية الروسية. وأتعهد لكم في مقابل قبولكم هذا بسداد جميع ديون
الدولة العثمانية، وحتى تزويد الميزانية والخزينة العثمانية بفائض عن حاجتها".
اليوم، وبعد نحو مائة عام على بداية الإذلال الكبير، يجد الفلسطيني، ومن خلفه وإلى جانبه الأنقياء الأتقياء الطيبون من أبناء الأمة، أمام أبناء وأحفاد "الجد" إياه، يمارسون لعبة معقدة من تمييع المواجهة، وتضييع الطريق على من يبحث عنها
فرد عليه السلطان العثماني بالقول: "لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكا لشخصي، بل هي ملكٌ للدولة العثمانية. نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بسكب الدماء والقوة ولن نسلمها لأحد إلا بسكب الدماء والقوة. والله لو قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين، ليوفر اليهود ملياراتهم.. فإذا قسمت إمبراطوريتي ربما يحصلون على فلسطين بلا مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا. أنا لن أقبل تشريحنا ونحن أحياء".
وصدق ما قال السلطان، وبدأت محنة العرب وفلسطين والمسلمين، حينما فككوا الخلافة، وحصلوا على فلسطين تقريبا بلا مقابل، فقد تواطأ على سرقتها القريب والبعيد. ولا داعي للتفصيل هنا، ولكن تلك كانت نقطة البداية وانهيار الأمة، ولم يكن أحد ليأخذ ذرة من تراب فلسطين لو لم يبدأ فصل الذل للأمة بأسرها!
واليوم، وبعد نحو مائة عام على بداية الإذلال الكبير، يجد الفلسطيني، ومن خلفه وإلى جانبه الأنقياء الأتقياء الطيبون من أبناء الأمة، أمام أبناء وأحفاد "الجد" إياه، يمارسون لعبة معقدة من تمييع المواجهة، وتضييع الطريق على من يبحث عنها.
فبعد أن أخفقوا في القضاء على أهل الأرض، وفشلوا في تطويعهم، وجعلهم ينسون حقهم - بالتقادم - في بلادهم، طفقوا يخترعون مسارات من شأنها أن ترفع كلفة التحرير ولا تلغيه بالقطع، بدءا من عقد اتفاقات الهدنة و"السلام"، وصولا إلى شق الصف الوطني باستمالة "الجواسيس"، ومرورا باتباع سياسة متوحشة لإطفاء جذوة المقاومة والأمل.
المقاومة هي الحل، ولا حل سواها، مقاومة بكل ما هو متيسر من أدوات، تماهيا مع ما فعله ويفعله العدوان، الذي لم يدخر سلاحا لم يحارب به الفلسطيني، ومن حق الفلسطيني هنا أن يواجه عدوه بمثل ما يحاربه به
بعد مائة عام من التيه، لم يبق أمام الفلسطيني إلا طريق واحد ليسلكه، وهو ما أثبت جدواه في غير موقع، وهو طريق المقاومة، ولن يكون آخر المواقع موقعة "أسوار القدس" وانتفاضتها، بل ربما تكون هي بداية جديدة تنفض عن درب الآلام الفلسطيني الطويل كثيرا مما علق به من وهم وخذلان وتآمر. ودع عنك هنا ما يروجه "مخفر رام الله" المعتاش على الوهم والتنسيق الأمني؛ من وضع أسس جديدة لاستئناف مسير الوهم المسمى مفاوضات، ليس من شأنها إلا بعثرة الجهود وإعطاء العدو المزيد من الوقت لتخريب الأرض والعرض، الشجر والحجر والبشر. فعدو جدك لا يمكن أن يودك، إلا إن كسرت عنقه وأخضعته، وساعتها ودك أم لم يفعل لا فرق، و"عمره" ما يفعل!
المقاومة هي الحل، ولا حل سواها، مقاومة بكل ما هو متيسر من أدوات، تماهيا مع ما فعله ويفعله العدوان، الذي لم يدخر سلاحا لم يحارب به الفلسطيني، ومن حق الفلسطيني هنا أن يواجه عدوه بمثل ما يحاربه به، أما طلاب التفاوض "الأبدي" وأصحاب خيار "التسويات" فلندعهم في غيهم يعمهون، فهم يعلمون قبل غيرهم أنهم لن يأخذوا من عدوهم إلا ما أخذه هيرتزل من السلطان عبد الحميد، مع فارق التشبيه!!