في قصيدته الجسر يقول الشاعر اللبناني خليل حاوي مخاطبا الذين يعملون لبناء شرق جديد حر وقوي ومتطور:
يعبرون الجسر في الصبح خفافاً
أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
الى
الشرق الجديد
أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد
وقد تحولت هذه القصيدة الى أغنية غنّاها الفنان العربي مارسيل خليفة، وهي تحية لكل مقاوم ومناضل في هذا الشرق العربي.
والشاعر حاوي من شعراء التجديد في الشعر العربي وفي شهر حزيران/ يونيو من العام 1982، وعلى وقع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت أطلق حاوي من بندقية صيد طلقة باتجاه رأسه، احتجاجا على العدوان الصهيوني، منهيا حياته التي بدأت بولادته في ضهور الشوير في جبل لبنان عام 1919. وكان دوي الطلقة أشد من دوي قصائده التي حفلت بالرهان على الانبعاث والتجدد.
ولم يشهد حاوي ولادة
المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان، والتي فرضت على العدو الانسحاب من معظم الأراضي اللبناني المحتلة، كما لم يشهد إعادة تجديد ولادة المقاومة
الفلسطينية بكافة فصائلها والتي حققت إنجازات هامة طيلة الأربعين سنة الماضية. ولو كان لا زال حيا الى اليوم، لكانت قصيدته الجسر تهدى إلى أبناء الشعب الفلسطيني والمقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وحي الشيخ جرّاح وكافة الأراضي المحتلة منذ العام 1948، فأعادوا توحيد فلسطين التاريخية في هذا الصراع المستمر منذ نشوء هذا الكيان في 15 أيار/ مايو 1948.
ورغم أهمية كافة أشكال الدعم المعنوي والإعلامي والسياسي والميداني الذي يقدّم للشعب الفلسطيني لمواجهة هذا العدوان المتجدد، فان الإنجازات التي حققها هذا الشعب تفرض علينا جميعا توجيه الشكر والتقدير له وليس فقط الاكتفاء بالدعم. ولن أتحدث هنا عن الإنجازات العسكرية والميدانية والاستراتيجية والسياسية سواء على صعيد القضية الفلسطينية أو الصراع الكبير مع هذا الكيان على صعيد كل المنطقة، فهذا يحتاج لدراسات تفصيلية، بل سأركز على مسألة الوعي وكيف يمكن لفلسطين والشعب الفلسطيني أن ينقلنا الى مرحلة جديدة من التفكير لبناء شرق حر ومتكامل وموحد، بعيدا عن الصراعات والأزمات والحروب الداخلية.
فما يجري في فلسطين اليوم أعاد الإعتبار للقضية الفلسطينية على أنها القضية الأولى والمركزية لكل العالم العربي والإسلامي ولأحرار العالم، وأنهى الرهانات على كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني ودفن ما سمي صفقة القرن تحت التراب، والأهم من كل ذلك أنه وحّد الشعب الفلسطيني في كل فلسطين التاريخية وفي كل أنحاء العالم في مواجهة هذا الكيان وداعميه، لكن بالنسبة لأبناء هذا الشرق قدّم لنا فرصة جديدة من أجل الدعوة مجددا للتكامل والتعاون وبناء منظومة جديدة في المنطقة، كي تواجه كل مشاريع التهويد والصهينة والتفتيت والتقسيم والتطرف والتكفير.
فخلال السنوات الأخيرة غرقنا في صراعات متعددة في هذه المنطقة، وشاركت في هذه الصراعات قوى محلية وإقليمية ودولية، وكان العنوان الأساسي لها ضرب قوى المقاومة وتفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية ومذهبية وإغراقنا في حرب مذهبية في المائة عام المقبلة لصالح الكيان الصهيوني والمشروع الأمريكي.
لكننا اليوم نشهد وعيا جديدة بدأ ينتشر في المنطقة وذلك بسبب المتغيرات الدولية والتطورات الاقليمية والفشل في القضاء على قوى المقاومة وتفتيتها، وسيكون للشعب الفلسطيني وقوى المقاومة اليوم دورا اساسيا في صناعة هذا الوعي وفرض خارطة طريق جديدة للخروج من التاريخ الى المستقبل.
فإذا كانت فلسطين توحدنا وتجمعنا، فعلينا مسؤولية الاستجابة لهذا النداء الجديد من هذا الشعب الحر رغم أنه يعيش في ظل الاحتلال الصهيوني، وهذه بعض الأفكار الأولية التي يمكن أن تلاقي نضال الشعب الفلسطيني اليوم:
أولا: اتخاذ قرار واضح بوقف كل الصراعات والحروب الداخلية أو بين القوى الإقليمية، ووضع آلية للتسويات السياسية الجديدة في دول المنطقة.
ثانيا: العمل لبناء نظام إقليمي جديد ولا سيما بين العالم العربي وتركيا وإيران، لحماية أمن المنطقة والاستغناء عن الوجود الأجنبي بكافة أشكاله.
ثالثا: التعاون مع القوى الدولية سواء في الشرق أو الغرب، من خلال الندية وليس من موقع التبعية لمحور دون آخر، وإعادة الاعتبار لدور الشرق كمركز أساسي للديانات التوحيدية والقيم المشرقية التي تساهم في تطوير العالم نحو الأفضل، بدل الغرق في الصراعات الدينية والمذهبية والسياسية والقومية.
رابعا: قيام دولة المواطنة القائمة على العدالة وقبول التنوع وحماية حقوق الإنسان والحريات، انطلاقا من فلسطين التاريخية إلى كل دول المنطقة.
خامسا: إعادة طرح مشروع الترابط والتكامل بين كل دول المنطقة على أسس جديدة تحترم التنوع والخصوصيات المختلفة، وتقديم النموذج الحضاري المتطور والذي يدعو للتعايش بين كافة الأديان والمذاهب، ويؤمن بحرية الضمير والاعتقاد كبديل عن المشروع الصهيوني التفتيتي أو مشروع الهيمنة الأمريكي.
نحن اليوم أمام فرصة حضارية جديدة وأمل بولادة شرق جديد متحرر وقوي رغم كل الصعوبات والتحديات التي تواجهنا، سواء داخل كل قُطر أو بين الأقطار المختلفة. ولا يمكن لأحد أن يقلل حجم المخاطر والتحديات المتنوعة، لكن الشعب الفلسطيني يعطينا الأمل مجددا بأنه بإمكاننا الخروج من هذه
الأزمات المتعددة. فرغم مرور 73 عاما على نشوء الكيان الصهيوني وكل أشكال الدعم التي حصل عليها، فإنه لم ينجح في القضاء على هذا الشعب الحر والمقاوم.
في رواية "رجال تحت الشمس" للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، والتي تحولت إلى فيلم باسم "المخدوعون" للمخرج المصري توفيق صالح، يتساءل الكاتب (البطل): "لماذا لم يقم اللاجئون الفلسطينيون، المختبئون في خزان الشاحنة التي كانت تهرّبهم عبر الحدود من العراق الى الكويت، بطرق باب الخزان كي ننقذهم من الموت اختناقا؟".
لكن هؤلاء اللاجئين وغيرهم طرقوا الباب كثيرا، وإن كانوا سابقا لم يجدوا من ينقذهم أو يساعدهم، فهم اليوم يساعدون أنفسهم بأنهم يفجرّون الخزان الذي يسجننهم، ويخرجون إلى الحرية ويخرجوننا معهم. فهل نستجيب لهم أم نبقى أسرى الصراعات والخلافات والتاريخ المليء بالحقد والكراهية؟
فلسطين اليوم فرصة جديدة لنا كي نعود أحرارا ونتوحد مجددا، فمن يستحيب للنداء؟
twitter.com/KassirKassem