قضايا وآراء

فقه السيرة

عصام تليمة
1300x600
1300x600

يأتي شهر رمضان بنفحاته، وحب المسلم فيه أن يقترب من كتاب الله، تلاوة وتدبرا وفهما، وكنت كتبت من قبل مقالا عن أفضل تفسير يقرؤه المسلم في رمضان، وهو قلبه، أي: يقرأ القرآن الكريم ثم يتأمل فيه، وإن وقفت أمامه كلمة غمض عليه معناها، فليلجأ لكتاب كلمات وبيان للشيخ محمد حسنين مخلوف رحمه الله، ويقرأ معنى الكلمة، وإن أراد التوسع فيقرأ التطبيق العملي لهذا القرآن، فعليه بقراءة السيرة النبوية.

ولا يوجد رسول أو عظيم على وجه الأرض نال ما ناله محمد صلى الله عليه وسلم من الاهتمام، كتابة، وتوثيقا، وتحقيقا، من المحبين والكارهين على حد سواء، وقد تنوعت طرق الكتابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته، سواء الجانب السياسي، أم النفسي، أو في ضوء الفلسفة، أو في ضوء التاريخ، وغيره.

وممن كتبوا في السيرة النبوية: المرحوم الشيخ محمد الغزالي، فكتب كتابا بعنوان: (فقه السيرة)، لقد ألف الغزالي هذا الكتاب، وهو في الحرم النبوي الشريف، وكان لا يكتب جملة إلا فاضت عينه بالدمع، شوقا ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبين هدفه من الكتاب فقال: "وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدت في إبراز الحِكَم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوة أن تدع آثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال".

وقال عن هدف آخر: "أن تكون السيرة شيئا ينمي الإيمان ويزكي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحق والوفاء له. ويضم ثورة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله".

 

مع قراءة السيرة مع تضمنها نظرات هؤلاء العلماء لتأملاتهم، فالأجدر بالإنسان أن يجمع مع هذه النظرات أيضا تأمله وتأثره الخاص بما قرأه عن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي معين لا ينضب، وما من أحد تأمل وقرأ فيها إلا خرج بدروس عظيمة، إذا كان حاضر القلب، موصولا بالله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 



وأوضح طريقته في كتابة السيرة فقال: "ولعلي هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشد أجزاءه روح واحد. ثم وزعت النصوص والمرويات الأخرى بحيث تتسق مع وحدة الموضوع وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته".

بنى الغزالي منهجه في فهم نصوص السيرة على جمع النصوص جميعا، وربط جزئيات السيرة بكليات الإسلام ومقاصده الكبرى، ولذا نراه يرفض رواية في البخاري، وهو ما يسميه المحدثون: نقد متن الحديث. وقد اتضح ذلك في رفضه حديث إغارة النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق دون دعوة لهم، فقد رفضه الغزالي، لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته، أن ينذر من يذهب لقتالهم، ويرسل لهم الدعوة، ويمهلهم ثلاثا، ثم بعدها يغزو، ولكنه في بني المصطلق كما روى البخاري لم يفعل ذلك، فرفض الغزالي هذه الرواية، رغم أنها في البخاري، فلم يرفضها سندا، بل رفضها من حيث المتن.

امتاز كتاب الغزالي بعاطفة أدبية يحس بها القارئ، ويشعر بدفئها، وجاذبيتها، فلا يصيبك من قراءته ملل، أو سأم، ولا تشعر بأنها مجرد معلومات سردية عن السيرة النبوية فقط، بل يمزج فيها الغزالي بين الأسلوب الأدبي، الذي يخاطب به القلب، وأسلوب الإقناع العقلي الذي يشبع ويقنع به عقل القارئ، فلا ترى في كتابه ما تستغرب، بل تجد فيه صورة مجملة عن محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد خرج الشيخ الألباني رحمه الله أحاديث الكتاب، وهذا مما زاد من قيمة العمل العلمية، فقد جرت عادة العلماء أنهم لا يُعنون بكتاب، وبتخريج أحاديثه إلا إذا كان ذو قيمة كبرى علميا، كما رأينا أئمة كبار في الحديث تخرج كتبا لفقهاء وعلماء، كما فعل الإمام العراقي في تخريج أحاديث كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وذلك لقيمته العلمية، وأهميته في باب التزكية والسلوك، وفقه القلوب.

وترك الغزالي تعليقات الألباني كلها، لم يناقشه فيها، إلا في مواضع معدودة، لم يسلم الغزالي للألباني فيها، بناء على منهج الغزالي في نظرته للأحاديث من حيث نقد السند والمتن، والألباني من علماء نقد الأسانيد، ولذا سلم في كثير من تخريجاته لأحاديث ونصوص الكتاب، إلا في مواضع مثل: نقاش الألباني لقصية (بحيرى الراهب)، وقد مال لتضعيفها الغزالي، بينما مال الألباني إلى تصحيح القصة، وناقش الألباني الغزالي في هامش الكتاب آتيا بما يدل على صحتها، فعقب الغزالي عليه آتيا بما يؤيد قوله في تعليل القصة وتضعيفها، وقد ناقش الغزالي القصة من عدة جهات، بينما اتجه الألباني إلى السند فقط.

كتب المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي كتابا بنفس العنوان: (فقه السيرة)، واشتهر كذلك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو دلالة على أن الكتابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنح كاتبها شرفا وبركة، وإن كان كتاب الغزالي أسبق رحمه الله.

وإذا قلنا عن كتاب الله أن يكون للإنسان نظرته وتأمله فيه، بما يفتح الله عز وجل به عليه، فهو نفس ما نقوله في السيرة النبوية، فمع قراءة السيرة مع تضمنها نظرات هؤلاء العلماء لتأملاتهم، فالأجدر بالإنسان أن يجمع مع هذه النظرات أيضا تأمله وتأثره الخاص بما قرأه عن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي معين لا ينضب، وما من أحد تأمل وقرأ فيها إلا خرج بدروس عظيمة، إذا كان حاضر القلب، موصولا بالله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

[email protected]


التعليقات (0)