كتاب عربي 21

المتعاونون والمقاومون الفلسطينيون

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600

من الحِكَم الشائعة القول إن الوحدة مفضلة على الانقسام في الصراعات السياسية وإنه ينبغي وضع الخلافات جانبًا في خضم المعركة مع عدو مشترك. وينطبق هذا القول المأثور على القوى التي تتشارك في القناعة والإيمان بأولوية مقاومة المستعمر ودحر الاستعمار. 

أما في سياقات التزام فصيل بمقاومة المستعمر وفصيل آخر بالتعاون معه، فعلى أي أساس يمكن للوحدة بينهما أن تقوم؟ فلم نسمع أحدًا يطالب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، مثلًا، أن تؤسس وحدة مع المتعاونين الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي، المعروفين باسم "الحركيين"، أثناء الثورة الجزائرية. ويمكننا أيضًا أن نطرح الحالة الجنوب إفريقية مثالًا على ذلك، إذ لم يطالب أحد المؤتمر الوطني الأفريقي المقاوم أن يقيم وحدة مع حزب إنكاثا، المتعاون مع نظام الفصل العنصري. 

أما في الحالة الفلسطينية، فمنذ عقود تتم مطالبة "حماس"، التي تنادي بالالتزام بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، للانضمام إلى "وحدة وطنية" مع "فتح" التي تسيطر على السلطة الفلسطينية، والتي تعتبر أن مهمتها "المقدسة" على مدى عقود وحتى الآن هي التنسيق والتعاون مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي لسحق المقاومة الفلسطينية المناهضة لهذا الاحتلال. 

وعلى الرغم من أن المقاومين المناهضين للاستعمار لم يتحدوا أبدًا مع المتعاونين مع الاستعمار من أبناء جلدتهم في كل النضالات ضد الاستعمار، لا في جنوب إفريقيا ولا في روديسيا أو كينيا، ولا في فيتنام أو كوريا، نجد في الحالة الفلسطينية أن هذا بالضبط ما يجري مؤخرًا.

فقبل أسبوعين، اجتمعت الفصائل السياسية الفلسطينية المختلفة برعاية مصرية رسمية في القاهرة لوضع خطة "شراكة وطنية" لإجراء انتخابات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر من قبل إسرائيل (لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل ستسمح للفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة بالمشاركة). وكان قائد السلطة الفلسطينية غير المنتخب محمود عباس (والذي انتهت ولايته الانتخابية كـ"رئيس" للسلطة الفلسطينية في عام 2009) قد دعا إلى إجراء انتخابات جديدة.

يواصل الفريقان المتنافسان الرئيسيان، "فتح" و"حماس"، اللذان تنافسا آخر مرة في انتخابات عام 2006، الادعاء بأنهما يتبعان استراتيجيات متعارضة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي: فتصر "فتح" والسلطة الفلسطينية على أن السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية هو عبر التعاون الأمني الوثيق مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي ومساعدته في قمع وإنهاء جميع أشكال المقاومة الفلسطينية العنيفة منها والسلمية (بما في ذلك المقاطعة الدولية لإسرائيل) للاحتلال؛ في المقابل، يصر الجناحان السياسي والعسكري لحركة "حماس" على أن السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال هو المقاومة بأشكالها المتعددة، العسكري منها والمدني والتضامن الدولي والمقاطعة الدولية وغيرها. 

 

على الرغم من أن المقاومين المناهضين للاستعمار لم يتحدوا أبدًا مع المتعاونين مع الاستعمار من أبناء جلدتهم في كل النضالات ضد الاستعمار، لا في جنوب إفريقيا ولا في روديسيا أو كينيا، ولا في فيتنام أو كوريا، نجد في الحالة الفلسطينية أن هذا بالضبط ما يجري مؤخرًا.



ما هو إذن الأساس الذي يمكن أن تقام عليه وحدة بين هاتين الاستراتيجيتين الرئيسيتين المتعارضتين كجزء مما يشير إليه البيان الختامي للاجتماع على أنه "الوحدة الوطنية" الفلسطينية؟ 

هنا تبرز المفارقة الأكبر، حيث تبدو القضية برمتها ليست أكثر من تكرار للأحداث التي وقعت في الأعوام 2005 ـ 2007!

الجانب الصادم في البيان الذي أصدرته الفصائل في القاهرة هو عدم ذكره للاحتلال الإسرائيلي إلا مرة واحدة يتيمة وبشكل عرضي في البند رقم 12، حيث جاء فيه أنه بمجرد انتخاب البرلمان المقبل، فإن الفصائل الفلسطينية ستقوم بـ "رفع توصية للمجلس التشريعي الجديد بمعالجة ملف النواب المعتقلين لدى الاحتلال." عدا عن ذلك، فإن البيان الطويل والمفصل يتحدث فقط عن إجراءات الانتخابات وضرورة قبول جميع الأطراف لنتائجها؛ ولا يذكر البيان مطلقا أن الانتخابات ستجرى في ظل الاحتلال لإسرائيلي العسكري أو أن "فتح" كانت قد رفضت نتائج الانتخابات عندما خسرتها في 2006. وكذلك لا يذكر البيان "إسرائيل" نفسها بتاتًا وكأن احتلالها غير موجود وليس له علاقة بالانتخابات المرتقبة. 

وكما أنه ليس ثمة ذكر للاحتلال الإسرائيلي في البيان إلا عرضًا، فكذلك ليس ثمة ذكر للمقاومة الفلسطينية أيضًا، إلا عرضًا في البند رقم 1، حيث من المقرر عقد اجتماع للفصائل الفلسطينية في القاهرة الشهر المقبل لمناقشة انتخاب/اختيار أعضاء جدد لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية "بهدف تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، وتعزيز البرنامج الوطني المقاوم انطلاقا من كوننا حركة تحرر وطني". أما ماهية برنامج المقاومة الوطنية هذا، فسيتم تحديده على ما يبدو، في الاجتماع في آذار/ مارس، ومن الجلي أنه ليس أساس الاتفاق الحالي. أما أن الفصائل المجتمعة قد رأت أنه من المناسب والضروري أن تُذَكِّر نفسها بأنها ما زالت تشكل "حركة تحرر وطني" لهو أمر مثير للاستهزاء.

ولكن ما هو الهدف من هذه "الوحدة الوطنية"؟ وكيف ستكون هذه الانتخابات الجديدة؟ وما الذي سيمنع تكرار الأحداث التي جرت بين عامي 2005 و2007؟

كانت قيادة "حماس"، التي رفضت اتفاق أوسلو، قد أدركت أن الغرض من تشكيل السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق هو أن تعمل الأخيرة كأداة للاحتلال الإسرائيلي، وهو الهدف الذي حققته السلطة الفلسطينية بثقة وثبات. وقد أدركت "حماس" أيضًا أن الانتخابات، التي لا تمنح الفلسطينيين أي سيطرة على أراضيهم أو مياههم، ناهيك عن استمرار سرقة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لكليهما، هي ليست أكثر من مجرد حيلة علاقات عامة لا تخدم سوى مصلحة إسرائيل والمتعاونين معها في السلطة الفلسطينية. ولهذا السبب كانت حماس قد رفضت المشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية للسلطة الفلسطينية عام 1996 أو الانتخابات الرئاسية في كانون الثاني/يناير 2005 التي أعقبت وفاة ياسر عرفات في عام 2004.

ونتيجة افتقاده للشرعية التاريخية التي كان عرفات يتحلى بها، كان عباس بحاجة إلى إضفاء شرعية على حكمه. وعندما قرر الإسرائيليون في عام 2005 سحب قوات الاحتلال من داخل قطاع غزة وإعادة انتشارها حوله ومحاصرته، وتحويل القطاع إلى سجن في الهواء الطلق كما هو عليه اليوم، كان هناك تحرك نحو شكل من أشكال "الوحدة الوطنية" بين حركة "حماس" المقاومة للاحتلال وحركة "فتح" المتعاونة معه، أمل كل منهما من خلالها ردع الفريق الآخر عن استراتيجيته. ونتيجة لذلك، اجتمع إثنا عشر فصيلاً فلسطينياً، بما في ذلك "حماس" و"فتح"، في القاهرة في آذار/ مارس 2005 برعاية مصرية أيضًا لتسوية خلافاتهم حول نظام التصويت لاستخدامه في الانتخابات التي كانوا سيشاركون فيها جميعاً. وأصدروا إعلان القاهرة الذي وافق على نظام انتخابي يتضمن جزئيًا التمثيل النسبي وعلى "تفعيل وتطوير" منظمة التحرير الفلسطينية، وهي نفس اللغة المستخدمة في بيان الشهر الحالي.

لكن خلافا للاتفاق الأخير، لم ينس بيان 2005 التأكيد على "حق الشعب الفلسطيني في المقاومة من أجل إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم". كما سجل البيان معارضتهم للاستعمار الاستيطاني اليهودي وجدار الفصل العنصري، وكذلك "تهويد القدس الشرقية".

مع تفاقم غضب الفلسطينيين على السلطة الفلسطينية، التي اشتد فسادها المالي وتعاونها مع الإسرائيليين منذ الانتفاضة الثانية، زادت الانقسامات داخل فتح، لا سيما مع القادة الشباب الموالين لأوسلو مثل محمد دحلان (المنفي الآن في الإمارات العربية المتحدة) ومروان البرغوثي (سجنه الإسرائيليون وحاكموه على دوره المزعوم في ارتكاب "جرائم" ضد الاحتلال أثناء الانتفاضة الثانية) اللذين أصبحا خصمين لقيادتها التقليدية وتزايد شعبية "حماس"، أصرت الولايات المتحدة، لا سيما وزيرة خارجيتها اليمينية المتشددة كوندوليزا رايس، على إجراء الانتخابات في كانون الثاني/ يناير 2006.

كانت الولايات المتحدة تأمل في أن تقوم "فتح" بسحق "حماس" في الانتخابات، بناءً على استطلاعات الرأي في حينها التي تنبأت بشكل خاطئ بانتصار فتح. وأملت الولايات المتحدة وإسرائيل بأنه لو تحقق هذا النصر سيتم القضاء على حماس والمقاومة نهائيا. ساهمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بمبلغ 2.3 مليون دولار تحت عدة بنود كاذبة (مثل تمويل "غرس الأشجار" و "دوري كرة القدم") لدعم انتخاب فتح وتعزيز مكانة عباس (من الواضح والمضحك أنه لا يُنظر إلى ذلك التمويل على أنه تدخل "أجنبي" في الانتخابات). لكن المفاجأة كانت أن غطرسة الولايات المتحدة وعملائها هي ما تم سحقه في الانتخابات. فقد انتصرت "حماس" وفازت بـ 74 مقعدا في المجلس التشريعي بينما حصلت" فتح" على 45 مقعدا.

بدأت "فتح" وعباس بمضايقة قادة "حماس" المنتخبين واعتقال مؤيديهم. وقد اعتقل الإسرائيليون العديد من مرشحي حماس الذين فازوا بمقاعد برلمانية وكذلك وزراء حماس في الحكومة الجديدة التي تشكلت في آذار/ مارس 2006. وبحلول آب/ أغسطس، كانت إسرائيل قد اختطفت وأسرت 33 برلمانيًا تابعين لحركة حماس (25٪ من أعضاء المجلس التشريعي) و8 وزراء في الحكومة الجديدة. كما منعت أعضاء المجلس التشريعي من غزة من القدوم إلى الضفة الغربية. وبدون تشكل النصاب القانوني فلم يكن من الممكن للمجلس التشريعي أن يجتمع.

 

بما أن "فتح" والسلطة الفلسطينية لم تتراجعا عن تعاونهما مع الاحتلال الإسرائيلي ولا عن عداوتهما الصريحة للمقاومة الفلسطينية، فمن المنطقي الاستنتاج أن القيادة السياسية لحركة "حماس" هي التي رضخت لشروطهما


قامت الولايات المتحدة والأوروبيون بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية على الفور. وبحلول شهر حزيران/يونيو 2007، قام عباس بشكل غير قانوني بإقالة حكومة "حماس" المنتخبة واستبدل رئيس وزرائها برئيس غير منتخب هو موظف البنك الدولي السابق سلام فياض. قامت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، التي دربتها وكالة المخابرات المركزية، بمساعدة المخابرات الأردنية والمصرية، بمحاولة الاستيلاء على غزة والضفة الغربية بالقوة والإطاحة بالحكومة المنتخبة. وبعد أشهر من عمليات الخطف الإسرائيلية لمسؤولي حماس المنتخبين وقمع فتح لكوادر حماس في الضفة الغربية، نجح الانقلاب الفتحاوي في رام الله في هزيمة "حماس"، ولكن نتيجة مقاومة حماس الباسلة، لم يتمكن الانقلاب من الإطاحة بها في قطاع غزة. وبدعم من مصر ومن محمود عباس وأنصاره، قامت إسرائيل بعد ذلك بفرض حصار عقابي مستمر على غزة في محاولة لإجبار "حماس" على الاستسلام أو لتقويضها من خلال إلحاق المعاناة الشديدة بسكان القطاع.

لقد وقعت هذه الأحداث في أفضل الظروف، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا مستثمرة في استنباط "حلول" للأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي وقت لمّا تكن الدول العربية بعد قد بثت على الملأ، بلا خجل وبخضوع تام، عشقها وولهها المكبوت بإسرائيل. في الواقع، كان نص إعلان القاهرة لعام 2005 قد قدم لحماس المقومات الأساسية لإحلال العدالة للفلسطينيين ودعم الحقوق الفلسطينية، في حين أن نص بيان القاهرة لعام 2021 رفض الإقرار بأي من هذه الحقوق.

لماذا إذن تسعى القيادة السياسية لحركة "حماس" الملتزمة بالمقاومة إلى "الوحدة الوطنية" مع" فتح" التي أظهرت التزامًا صارمًا بالتعاون مع المستعمر الإسرائيلي لقمع الشعب الفلسطيني؟ في حين أن هذا الترتيب الجديد سيعود على "فتح" والسلطة الفلسطينية ورعاتهما الإسرائيليين والأمريكيين والأنظمة العربية (خاصة مصر والأردن) بمكاسب جمة، في حين لن تظفر حركة "حماس" منه إلا بأفدح الخسائر.

 

واستعدادًا للانتخابات المرتقبة، قامت إسرائيل في الأسبوعين الماضيين، في أداء يكرر ما قامت به في 2005 ـ 2007، بخطف واحتجاز قادة حماس ونشطاء يساريين آخرين مناهضين للسلطة الفلسطينية في جميع أنحاء الضفة الغربية. فإن خسرت "حماس" الانتخابات، وهذا هو الاحتمال الأكبر، نتيجة الممارسات والتلاعبات غير الشرعية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة و"فتح"، فإن الضغوطات عليها للتخلي عن سلاحها (وهو شرط إسرائيلي وأمريكي دائم لإنهاء عزلتها وعدم تجريمها) ستزداد بلا حدود. وإذا فازت، وهذا غير مرجح، فسوف تواجه تكرارا لانقلاب 2006/2007.

بما أن "فتح" والسلطة الفلسطينية لم تتراجعا عن تعاونهما مع الاحتلال الإسرائيلي ولا عن عداوتهما الصريحة للمقاومة الفلسطينية، فمن المنطقي الاستنتاج أن القيادة السياسية لحركة "حماس" هي التي رضخت لشروطهما. فأي شكل من أشكال "الوحدة الوطنية" بين "حماس" و"فتح" في ظل هذه الظروف لن يكون إلا وحدة التعاون مع العدو والمحتل الإسرائيلي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن شرخا رئيسًا سينشأ قريبا بين القيادة السياسية لحركة "حماس" وقيادتها العسكرية المستقلة: حيث ستنضم الأولى إلى صفوف المتعاونين بينما ستظل الأخيرة، التي لم تدعم الجهود المبذولة لـ"الوحدة" مع المتعاونين، من المقاومين الصامدين ضد جهود إسرائيل المتواصلة لإلغاء كافة الحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني.

التعليقات (1)
ناصحو أمتهم
الإثنين، 01-03-2021 06:13 م
شكرا استاذ مسعد. لا يلوم العاقل فتح و من لف لفها على شي. لكن كل اللوم على من يدّعي المقاومة على قاعدة المرجعية الحضارية الأصيلة ثم يمضي إلى الخيانة بالاجماع (راجعوا ما قال نزال عن اجماغ القيادة السياسية لحماس مبكرا على المشاركة في انتخابات سلطة اوسلو التي يزمع عباس محمود رضا ميرزا اجرائها).