هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما أن نشرت مقالي: (كيف نستفيد من الفقه الشيعي؟!) على موقع "عربي21"، منذ أسبوعين، حتى انهالت انتقادات من بعض طلبة العلم، وبعض الباحثين، وأنا أقدر بلا شك مصدر قلق البعض، وانفعال البعض الآخر، إذ إن ما قامت به إيران في المنطقة ليس قليلا، وقد سبب كوارث كبرى، لا ينكرها عاقل، ولا يرضى بها مسلم يخشى ربه، ولكني لم أكتب حرفا في إيران السياسية، إنني تكلمت عن مذهب فقهي من المذاهب، وفكر فيه ما يؤخذ، وفيه ما يترك، شأن كل علم مطروح في الحياة، ثقافيا كان أم دينيا.
والبعض ظن أني أنادي بالتقريب بين المذاهب، أو بين السنة والشيعة، وراح يذكرني بموقف شيخي القرضاوي، والذي كان مؤيدا له، ثم انتهى معارضا ورافضا له، وكلامي ليس له علاقة بالتقريب بين السنة والشيعة من قريب أو بعيد، بل كلامي عن شق علمي فقهي بحت، ولذا كان كلامي عن مذهب، وليس عن دولة أو نظام، ولا أدري لماذا يصر البعض عندما يكون الحديث عن الشيعة، أن ينحصر الحوار في إيران فقط، رغم أن الشيعة لهم وجود في باكستان، والهند، وتركيا، والعراق، ولبنان، وهم أقلية ليست قليلة بيننا، وسواء كانت لهم دول أم لا، فعلى مدار تاريخنا الإسلامي كانوا مذهبا معروفا، ويتم تداول آرائه، سواء بالموافقة أو التعقيب والرفض.
لنفكر بالأمر تفكيرا علميا مجردا، بعيدا عن الجرائم السياسية التي تقوم بها الدول، إننا نقرأ التوراة والإنجيل المحرفين حسب اعتقادنا وإيماننا الراسخ، إيمانا بكتاب ربنا الذي أخبرنا بالتحريف، ولكن هل منع ذلك أننا ندرس الكتاب المقدس؟ وهل منع ذلك من وجود ما لا يحرف فيه، وهل الاستفادة بما لم يتم تحريفه ممنوع شرعا؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره، عن الموقف من الإسرائيليات، أي: ما يروى عن بني إسرائيل، إما أن يتفق مع ثوابتنا، فلا مانع من أخذه، أو ما يتعارض معها فنرفضه، أو ما لا يتعارض ولا يتفق، وهذا نأخذ ونترك منه كما نشاء، رغم أنهم مخالفون لنا تماما.
وما يقال عن غير المسلمين، يقال عن بقية الفرق التي نشأت في الإسلام، فهل منعنا موقفنا من المعتزلة في فتنة خلق القرآن، من الانتفاع بفكر الجاحظ المعتزلي، أو تفسير الكشاف للزمخشري، الذي لم يأت مفسر من بعده ـ في الغالب ـ إلا واستفاد منه، وغيرهما من مفكري المعتزلة وغيرهم؟!
لو ترك الباحث نفسه للناس، لذهب وراح في اليوم الواحد عشرات المرات، والباحث الحق دوره: أن يبصر الناس بالعلم، بغض النظر عن موقف الناس منه، قبلوا أم رفضوا، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
الأزهر كان يدرس المذاهب الأربعة، ومعها المذاهب الأخرى، في باب الفقه المقارن، ورأينا معظم الرسائل العلمية التي صدرت عن الأزهر في القرن العشرين، كان يذكر فيها المذاهب الأخرى غير السنية.
عندما كتب الشيخ محمد أبو زهرة سلسلته عن الأئمة، فكتب عن الإمام زيد، والإمام الصادق، وتكلم عن مذهبهما، وعندما كتب كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية)، كتب عن الإمام جعفر الصادق، وكتب بحثا عن الميراث عند الشيعة الجعفرية، نشر في كتاب مستقل له رحمه الله.
ومعظم كتب الأحوال الشخصية لعلماء معاصرين كبار، ناقشوا مع المذاهب الأربعة المذاهب الشيعية وآرائها، ككتاب (الأحوال الشخصية بين مذهب أهل السنة والمذهب الجعفرية) للدكتور محمد حسين الذهبي، وهو كتاب درسه لطلبة كلية الحقوق في بغداد، وواضح من عنوان الكتاب، أنه راعى أن الطلبة وإن كان معظمهم سنة، فهم يعيشون بين شيعة يعتنقون المذهب الجعفري.
وكتاب (مدى حرية الزوجين في الطلاق) للدكتور عبد الرحمن الصابوني، وهو رسالة دكتواره في الأزهر، كتب مقدمته: محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى السباعي، والكتاب يذكر في كل مسألة فقهية، المذاهب الأربعة وغيرها من الشيعة والظاهرية، دون نكير من أحد من أهل العلم الكبار.
ولو رحت أحصي الكتب التي اعتمدت هذا المنهج، فسيطول بنا المقام، إن الأزمة الآن ليست فقهية ولا فكرية، إن الأزمة أن السياسة سممت الأجواء كلها، ويريد البعض أن يعمم هذا الموقف من السياسة إلى العلم، وهو كلام لا يستقيم، لأنه يستحيل تطبيقه في الحياة، لأن لدينا معيارا نتعامل به مع الأفكار ـ كل الأفكار ـ الصحيح منها والسقيم، الصواب والخطأ، وهو أننا ننتفع بكل صالح نافع، من أفكار البشر، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، حتى لو كانوا ملحدين، ما دام ما نأخذه منه لا علاقة له بثوابت ديننا، ولا يتعارض معها.
ويعتمد البعض في الرفض للأسف، على المزاج العام للناس، وهذا من أكبر الأخطاء التي يقع فيها من يتكلم في قضية ما، أو يعول على مزاج الناس العام، فلو ترك الباحث نفسه للناس، لذهب وراح في اليوم الواحد عشرات المرات، والباحث الحق دوره: أن يبصر الناس بالعلم، بغض النظر عن موقف الناس منه، قبلوا أم رفضوا، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
[email protected]