منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي حكمت المؤسسات العسكرية الوطنية، وما زالت تحكم في بلدان عالمنا العربي والإسلامي والأفريقي تحت مسمى الرؤساء والملوك والأمراء، لكنها في الغالب الأعم نظم عسكرية وإن لم ترتد الكاب وتحمل البندقية.. واقع فُرض علينا أو فرضناه على أنفسنا، لكنه صار واقعا معقدا صعب التفكيك.
العسكر يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد وحكام العباد لما لبعضهم من تاريخ قديم في مقاومة الاستعمار، نعم لم يكونوا وحدهم من قاوم الاستعمار بل قد يكون الكفاح المدني أكثر من العسكري، لكن العسكر هم من ورثوا تركة الاستعمار وتسلموا البلاد بعد رحيله (هذا إن كان قد رحل).
العسكر منذ عقود طوال وهم في الحكم والسياسة والاقتصاد بل والفن والرياضة، لذا فقد أصبحوا واقعيا جزءا لا يتجزأ من معادلة الحكم والسلطة والنفوذ، وإن أطروحات عودة العسكر إلى الثكنات هي طموحات وأمنيات أكثر منها مطالبات وممكنات.
مثلث مكونات المشهد
المصري: المؤسسة العسكرية وريثة البلاد بعد رحيل الاستعمار، والحركة المدنية (التيار العلماني بألوانه وأطيافه)، والحركة الإسلامية بألوانها المتعددة، بحاجة إلى إحداث توازن، وهذا هو التحدي القائم والقادم للوصول إلى دولة مستقلة مستقرة تحفظ فيها التوازنات والمصالح الوطنية والإقليمية والعالمية.
عملية إخراج العسكر من السلطة اليوم وغدا من السياسية دون الاقتصاد، خاصة في بلد مثل مصر يحكمه العسكر دون شريك منذ أكثر من 70 عاماً، لن تكون سهلة أو ميسرة، بل تحفها المكاره من كل الجوانب، وتفتقد لمقومات التفكيك وإعادة التركيب.
بل سيحتاج الأمر إلى عقود من التفاوض والضمانات خاصة للجنرالات. يرى البعض أن هذا التفاوض لم ولن يتم إلا في أجواء غير عادية، أجواء الهزائم والنكسات، أو أجواء الغضب والثورات، أو أجواء الفشل في الإدارة وحدوث الفوضى والصدامات. ربما هنا يجبر العسكر على التنازل والجلوس للنقاش والمفاوضات، لا التسليم وترك السلطات.
ويرى البعض الآخر أن التاريخ القريب نسبيا مر بكل ما سبق، وجاءت الفرص لكنها ضاعت بل تحولت لصالح العسكر. كانت الهزائم الساحقة والنكسات في العام 1967 وخرج الشعب يهتف "أحا أحا لا تتنحى"، وبقي الجنرال الزعيم، وكانت الفوضى والصدمات في العام 1977 ووصفت بانتفاضة الحرامية وبقي الجنرال الزعيم، وكانت الثورة في كانون الثاني/ يناير 2011 واختلف الإخوة الأعداء شركاء الثورة وبقي الجنرال القزم بدعم محلي وإقليمي ودولي.
التجارب الماضية والأحداث القائمة تؤكد أننا بحاجة لجيل مختلف، بحجم التحديات والطموحات والمسؤوليات، جيل يمتلك مهارة التعامل مع العقد المركبة وكيفية تفكيكها، يتحلى بالشجاعة والجرأة والمسؤولية، لا تعطله الحسابات الشخصية أو الجماعية للأحزاب والجماعات، جيل واقعي بعيد عن الشعارات التي لم ولن تتحقق، يؤمن بالحلول المرحلية للعقد التاريخية.
العسكر جزء أساسي في السلطة والحكم، والقول بعودة العسكر للثكنات لم ولن يكون لغياب الأجواء والضغوط الداعمة، لكن هناك حلولا أخرى في ظل تيارات أخرى ومنصات قيادة أخرى، وهذا يحتاج إلى إعداد وبناء للثقة المفقودة بين كل أطياف المجتمع.
الخلاصة، نحن بحاجة لبناء مجتمع التغيير وفقا لمواصفات التغيير، بالتزامن مع صناعة منصات مجتمع التغيير القادرة على التعامل مع حجم التحديات القائمة، وأهمها ملف العسكر في الحكم والسلطة، وملف المصالح الإقليمية والدولية في ظل وجود سرطان المنطقة (إسرائيل)، وهذا يستغرق عقودا إذا بدأنا الآن، بعيدا عن الأحلام والأمنيات والخيالات..