"لقد نجحنا في خطة المناورة مع
فيروس كورونا"؛ بهذه الكلمات بدأت وزيرة
الصحة المصرية حديثها على إحدى فضائيات مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة، وأفاضت بعدها في شرح الإنجازات الحكومية لضبط عدد إصابات عدوى
كورونا بين المواطنين وتسطيح المنحنى، بما يفوق في القدرة والمهارة ما تم في دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
واستخدام الوزيرة لمصطلح "المناورة" كان غريبا على الأذن المصرية التي تعودت على سماعه في المجال العسكري، وليس في مجال المواجهة الصحية مع مرض سريع الانتشار وشديد العدوى مثل فيروس كورونا المستجد.
ومن أهم عناصر المناورة المعروفة هي الإعداد الجيد للبنية التحتية، وتوفير التجهيزات لمواجهة قوات العدو، فهل كانت خطة "المناورة ضد الفيروس" تعني ترك المستشفيات تعاني من
نقص غاز الأكسجين في غرف العناية المركزة، حيث يرقد مصابو كورونا يتلهفون على نسمة من هواء نقي تسري في دمائهم، وكانت كارثة ضحايا الموت خنقا بسبب نقص الأكسجين في المستشفيات، رغم التصريحات الوردية عن وجود مخزون استراتيجي مركزي من الأكسجين، مما يدل على وجود خلل في وسائل النقل وتوقيتات إصدار أوامر التوريد، بالإضافة إلى قصور شديد في جاهزية المستشفيات من حيث خزانات الغاز وسلامة شبكات التوزيع داخل عنابر المرضى.
وهل كانت تلك "المناورة" تشمل ترك الفريق الطبي عاجزا في مواجهة الوباء، حيث كثرت شكاوى نقابة
الأطباء من نقص الأدوات والمستلزمات والمطهرات والواقيات، وتحولت صفحة النقابة إلى دفتر عزاء يومي تعلوه صور الضحايا من أطباء مصر الذين يتساقطون بالعشرات يوميا بين مصاب وشهيد؟ فكيف هي "المناورة" إذن وجنود الجيش الأبيض عاجزون عن مواجهة الفيروس ماديا لنقص التجهيزات، وعاجزون عن مواجهته معنويا للقصور الشديد في الدعم النفسي والمساندة الوجدانية لهم؟ وقد اتهمهم رئيس الحكومة من قبل بالتقاعس والتخاذل زاعما أنهم السبب في زيادة أعداد الوفيات، وبلغ التعسف مداه باعتقال من تجرأ منهم ورفع صوته بالشكوى مطالبا بحقه في توفير بيئة عمل صالحة آمنة مناسبة لتقديم خدمة جيدة ورعاية صالحة للمواطنين.
وجاءت نتيجة الإهمال واضحة في صورة ممرضة مستشفى الحسينية بمحافظة الشرقية شرق الدلتا، وهي تجلس منكمشة داخل نفسها ومنهارة تماما، تلك الصورة التي هزت مشاعر العالم أجمع، وكانت لحظة فارقة تطلع فيها الشعب إلى قيادات الحكومة في ترقب لرد الفعل، والذي جاء سريعا في صورة أخرى متناقضة بدت فيها وزيرة الصحة وهي سعيدة باسمة متهللة الوجه بجوار العروسين
بحفل زواج في قاعة مغلقة شديدة الزحام، وبين حضور بدون كمامات يتراقصون، لتعرض بوضوح خطة "المناورة" بمفهومها السياسي؛ بمعنى الخداع والتواجد في مكان غير متوقع ولا يتناسب نهائيا مع أساسيات دور الوزيرة في تقديم الدعم النفسي وإعادة التأهيل لأعضاء الفريق الطبي المنهار جسمانيا ومعنويا ومشوش ذهنيا.
وشمل حديث وزيرة الصحة المتلفز جانبا من خطة "المناورة" بغلق المدارس والجامعات مبكرا، ولكنها لم تذكر شيئا عن إقامة المهرجانات السينمائية والمسرحية والموسيقية على مدار الأشهر الماضية بالتوازي مع الانتخابات المتتالية للبرلمان بغرفتيه النواب والشيوخ، وما يعنيه ذلك من حفلات ومؤتمرات وتجمعات سابقة وتالية. ولم توضح أهمية إقامة كأس العالم لكرة اليد في القاهرة على مدى أسبوعين تتولى فيه الصحة إجراء اختبارات ومسحات كورونا المجانية يوميا، لقرابة الألف مشارك، مجانا باعتبارها خطوة هامة ضمن مناورة الخداع الاستراتيجي للفيروس، في حين يعاني أعضاء الأطقم الطبية من الإهمال الشديد في إجراء الاختبارات رغم تعرضهم اليومي لمخاطر العدوى الحقيقية بين المرضى في حجراتهم وبين ردهات المستشفيات.
ومن ناحية أخرى، فقد جاء حديث وزيرة الصحة عن خطة "المناورة" ضد الفيروس منطقيا تماما، ويعكس الواقع في مجال توفير
لقاحات كورونا، حيث لم تشر الوزيرة من قريب أو بعيد لمواعيد بدء حقن المصريين باللقاح الواقي من الإصابة بعدوى الفيروس، وهو الأمر الذي يترقبه شعب مصر منذ أكثر من شهر؛ حيث فوجئ الناس وقتها بالوزيرة تهرول إلى إحدى المطارات لتكون في شرف استقبال شحنة شملت عدة آلاف من اللقاح الصيني، والذي أعلنت الوزيرة أنه وصل هدية مجانية بناء على مبادرة رئاسية، وقالت إنه سوف يتم توزيعه بالمجان على المصريين حسب خطة تم فيها ترتيب الألويات، وحساب التوقيتات، وتوفير الإمكانيات، ولكن يبدو أن روح "المناورة" قد غلبت على المشهد؛ حيث خرجت الوزيرة بعدها لتعلن أن اللقاح سوف يكون مجانا لغير القادرين بدعم من رجال الأعمال، وهذا يعني بالتالي أنه لن يكون مجانيا لعموم المصريين. وزاد الطين بلة أن خرج علينا وزير المالية يشكو ارتفاع تكلفة توفير لقاح يكفي كافة الشعب، وذكر مليارات الجنيهات المطلوبة، مما يعني وجود تراجع وكر وفر في ميدان "المناورة".
وكان اللافت للنظر في حديث الوزيرة حول خطة "المناورة" هو أنها أعلنت أن الأرقام الرسمية لأعداد إصابات كورونا تمثل عشرة بالمائة فقط من الأرقام الحقيقية، ولم يكن هذا بالجديد على الشعب، لأن تلك النسبة تحديدا سبق وأن أعلنها عدد من المسؤولين بوزارة الصحة من قبل، وهذا يؤكد على أن خطة "المناورة " لم تكن ضد الفيروس الفتاك، ولكنها كانت موجهة في المقام الأول نحو الشعب نفسه، في خطوات متتالية تجعله يعيش في ملهاة، محروما من خدمة صحية جيدة، ومحجوبة عنه سبل الوقاية عبر توفير اللقاحات التي تتسابق حكومات العالم حاليا لتوفيرها لشعوبها.