هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تناول الصحفي والكاتب آزاد عيسى، مذكرات الرئيس السابق باراك أوباما، منتقدا إياها، باعتبارها "صممت بعبارات منمقة" تخالف الواقع.
واقتبس الكاتب في مقاله في موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، العديد من العبارات في كتاب أوباما وناقشها، لا سيما المتعلقة بالوضع الداخلي والشرق الأوسط.
وفي ما يأتي النص الكامل للمقال كما ترجمته "عربي21":
مذكرات صممت بعناية فائقة بعبارات منمقة ولكنها لا تستطيع أن تخفي ما الذي آل إليه أمر رئيس أمريكي عادي
في محاضرته التاريخية التي ألقاها في القاهرة في يونيو (حزيران) من عام 2009، وقف باراك أوباما، بوصفه رئيساً حينها للولايات المتحدة، أمام جمع من الشباب المصري المتحمس ليعلن أنه جاء يسعى "من أجل بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم، بداية تقوم على المصلحة المتبادلة والاحترام المتبادل، بداية تقوم على الحقيقة التي تؤكد أن أمريكا والإسلام ليسا متنافيين وليسا بحاجة لأن يكونا متنافسين".
ولكن بعد مغادرته للرئاسة بعد ذلك بثمانية أعوام لم يكن الكثير قد تغير في الشرق الأوسط، حيث ظلت الحروب مشتعلة، ولم يتوقف القتل، وتضاعفت أعداد الميليشيات المسلحة، وتعمقت عوامل زعزعة الاستقرار أكثر فأكثر.
لم يجد أوباما مفراً من التدبر في إخفاقه في الالتزام بالقيم التي دعا إليها في خطاب القاهرة، حيث كتب في مذكراته التي صدرت في شهر نوفمبر بعنوان "أرض موعودة": "راودتني نفسي على الإجابة، بالطبع – لكي أشير إلى أنني سأكون أول من يقول إنه لا يوجد خطاب واحد بإمكانه أن يعالج للتحديات التي ما لبثت تواجه المنطقة منذ وقت طويل. لقد بذلنا جهوداً كبيرة بشأن كل واحدة من المبادرات التي ذكرتها في ذلك اليوم، سواء كانت كبيرة (إبرام صفقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين) أو صغيرة (إيجاد برامج تدريب لرجال الأعمال الناشئين)، وكل الحجج التي أوردتها في خطاب القاهرة مازلت مؤمناً بها ولما تأخرت الآن عن إنفاذها".
بين الواقع والكلام
ولكن ما أن تظن أن أوباما انتهى من تفسير السبب في تناقض الواقع مع ما كان يصدر عنه من وعود، تجده يمضي ليقول:
"ولكن في نهاية المطاف، حقائق مع حصل هي الحقائق، وتجدني ماثلاً أمام نفس مجموعة الأسئلة التي كنت أجدها صعوبة في الإجابة عليها عندما كنت ناشطاً في شبابي. ما فائدة وصف العالم كما ينبغي أن يكون بينما الجهود التي تبذل لتحقيق ذلك العالم لا تفي بالغاية؟ هل كان فاسلاف هافيل(الكاتب والمعارض التشيكي) محقاً عندما نوه بأنني حين أرفع سقف التوقعات فلا مفر من أن أخيب آمالهم؟"
ثم يتساءل أوباما بشيء من الأناقة اللفظية قائلاً: "هل من الممكن أن المبادئ والمثل العليا المجردة كانت وستبقى دوماً مجرد حجة أو مادة مسكنة، أو ربما وسيلة للتغلب على اليأس، ولكنها لا تضاهي الدوافع الأكثر بدائية والتي في واقع الأمر تحفزنا، بحيث أنه بغض النظر عما نقوله أو نفعله، لا مفر من أن التاريخ سوف يمضي بموجب المسار المقدر له مسبقاً، دورة لا نهائياً من الخوف والجوع والصراع والهيمنة والضعف؟"
بمعني آخر هناك طريقة أبسط لفهم إخفاقات أوباما في الوفاء بما يسمى الوعود التي قطعها على نفسه لما يسمى بالعالم الإسلامي في عام 2009. جاء أوباما على شكل حصان طروادة. كان محتماً أن تتحول كلماته اللطيفة دوماً إلى علب قنابل الغازات المسيلة للدموع وأغلفة طلقات الرصاص ومعتقلين سياسيين.
لم يتغير شيء لأن كل شيء هو بالضبط كما قدر له أن يكون.
البحث عن إرث
"أرض موعودة" هو المجلد الأول من مذكرات من مجلدين للرئيس الأمريكي الرابع والأربعين، يتقصى فيها أوباما جذور حياته المبكرة وعمله كمنظم داخل المجتمع قبل أن يتحول إلى السياسة التي قادته إلى البيت الأبيض.
يتعرج الكتاب ويلف بين الحنين إلى وقت عائلي ضائع وأزمان أسهل مع ميشيل وابنتيه، ساشا وماليا، وتوثيق يكاد يكون مبتذلاً ولا يطاق للعقبات المهولة التي واجهها داخل الكونغرس ومجلس الشيوخ. وينتهي كما انتهت فترة رئاسته الأولى بقتل أسامة بن لادن.
يقدم أوباما في مذكرات عرضاً مفصلاً لتجربته يخلص منه إلى الزعم بأنه كرس لنفسه إرثاً مرجعياً وأن هذه التركة، كما يبدو، هي وعد أمريكا.
ولتحقيق ذلك تجده يحتفل بما حققه من مكاسب ويتواضع أمام ما مُني به من خسائر، وينتقد القصور في الحلم الأمريكي ويندب عيوبه الكثيرة والتي يعزوها إلى أن العمل على تحقيقه مازال مستمراً. ويعرب عن إعجابه بما يبادل به العاملين تحته من جمل قصيرة ألمعية، ويقدم نفسه على أنه منكر لذاته، ولكنه في نفس الوقت يتمتع ببصيرة، ولديه الاستعداد لتحمل ما يوجه إليه من ضربات.
ولكنه لا يتحمل في الواقع المسؤولية عن أي خطأ. لا تنجم أي تسوية على الإطلاق عن حاجة شخصية وإنما الظروف هي التي تحتم عليه "أن يزاوج بين العاطفة والعقل"، كما علمته جدته الحبيبة، واسمها توت. والحقيقة هي أن أوباما يوضح من البداية أنه بالرغم من أنه ترشح للرئاسة رافعاً راية التغيير بكل حماسة إلا أنه في الحقيقة لم يكن يؤمن بشيء من ذلك. في قلبه، وفي الصميم من ذاته، لم يكن أكثر من إصلاحي.
هكذا كانت نشأته.
إصلاحي باستمرار
وفي سبيل تبليغ هذا الدرس المبكر، يشرح أوباما كيف كانت جدته توت تعمل بجد طوال حياتها، وكيف عانت من سوء معاملة الرجال للنساء في محل عملها، ولكنها تحملت العنت إلى أن تقاعدت في نهاية المطاف وارتاحت فيما بعد. ويشير إلى خلقها في العمل باعتباره القلب النابض للحلم الأمريكي، ويفعل ذلك دون أن يعترف بأن اقتصاد الولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية إنما صمم لخدمة الأمريكيين البيض، مثل جدته، على حساب الأمريكيين السود الذين كانوا مازالوا يعلقون في الشوارع شنقاً بلا محاكمة، والذين كانوا حتى ذلك الوقت لا يملكون حق التصويت في الانتخابات وكانوا مازالوا أساساً يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية.
بمعنى آخر، بالرغم من كونه ذا أصول أجنبية ونتاج تزاوج بين أعراق متباينة، تسنى لأوباما بسبب قربه من الوضع القائم أن ينشأ على الاعتقاد بالخير المتأصل في النظام وبالرجاء من الفكرة التي اسمها أمريكا.
مثل هذا الدرس المتواضع، والذي يفسر إيمانه الراسخ بالاعتدال فوق كل اعتبار آخر، هو اللغة التي تهيمن على 768 صفحة تتأرجح محتوياتها ما بين يوميات مدونة، ورطانة برلمانية تشريعية بالكامل (حول نجاحات وإخفاقات العملية السياسية) وتقارير وزارة الخارجية (عند التطرق للسياسة الخارجية أو للعلاقات مع الدول الأخرى) والتي تعطي انطباعاً مشابهاً لذلك الذي يخرج به المرء من قراءة روايات من الدرجة الثانية حول الجاسوسية أثناء الحرب الباردة. أما استعداده لغض النظر عن العفن المؤسسي فليس مجرد سلوك انتهازي، وإنما يفسر نجاحه في الصعود إلى قمة الهرم.
على سبيل المثال، عندما دخل حلبة التنافس على الترشح للرئاسة، طُلب منه التوقيع على عريضة (نظمها أقطاب قطاع صناعة البوظة والتقدميون – فيما عدا حينما يتعلق الأمر بفلسطين – من مثل بن كوهين وجيري غرينفيلدأصحاب منتج بن أند جيريز) تدعو المرشحين إلى الالتزام بخفض الميزانية العسكرية، رفض أوباما التوقيع، ويفسر ذلك في كتابه بالقول: "لم يكن بوسعي كرئيس الموافقة على التقيد بأي تعهد أقطعه على نفسي حين يتعلق الأمر بأمننا القومي."
ولكن أوباما كان يعلم أن السبب الحقيقي هو أن التوقيع على العريضة كان سيحرمه من فرصة الفوز لأنه ما كان ليتأهل لموقع القائد الأعلى للقوات المسلحة القادم. وإلا فكيف سيتسنى له كرجل أسود يحمل اسماً من المفروض أنه مسلم، أن يسير بينهم إذا لم يصبح واحداً منهم؟
فيما بعد، وحينما أصبح مرشحاً رئاسياً، اختار منافسه جون ماكين ساره بالين لتكون شريكته في التنافس على منصبي الرئيس ونائب الرئيس، وعن ذلك يقول أوبوما: "أتساءل في بعض الأوقات ما إذا كان ماكين، لو استقبل من أمره ما استدبر، سيختار بالين لتكون شريكاً له – بعد أن علم كيف أن صعود نجمها وإجازتها كمرشح لمنصب نائب الرئيس كان سيشكل نموذجاً للسياسيين في المستقبل، مما سينقل الوسط في حزبه والسياسة في البلاد بشكل عام إلى الوجهة التي كان يمقتها.
يقول في ذلك: "يروق لي الاعتقاد بأنه لو منح فرصة ثانية لاختار شيئاً مختلفاً".
ولكن مات ماكين، ولا شيء مما قد يقوله أو يفعله أوباما من شأنه أن ينتشل بالين، والتي وصفتها صحيفة ذي شيكاغو تريبيون بأنها "الأم السياسية لدونالد ترامب"، من تركة ماكين كشركة له في حملته الانتخابية.
فكرة أن يعامل أوباما ماكين كشخص بكرم خاص لأنه ساعد على جلب أفكار بالين باتجاه التيار العام، بينما رأينا فيما بعد الحزب الجمهوري بأسره يجتمع ليعاضد دونالد ترامب الذي لا يخفي عنصريته وكراهيته للأجانب واحتقاره للمرأة، تنضوي على محاولة مذهلة لخداع أولئك الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب بسبب انتخاب ترامب رئيساً للبلاد.
وحتى بالنظر إلى ما قد سلف، يرفض أوباما القبول بأن انتخاب ترامب في 2016 كان أكثر من مجرد ومضة على طريق "الأرض الموعودة". وحتى فيما لو فعل ذلك، فهو يرفض أن ينظر إليه كرجل أسود غاضب يستحضر العنصرية القاهرة كمكون أساسي من مكونات الثقافة الأمريكية. وعن ذلك يكتب أوباما قائلاً: "ما يمكنني قوله جازماً هو أنني لست على استعداد للتخلي عن فكرة أن أمريكا واردة – ليس فقط من أجل الأجيال القادمة من الأمريكيين ولكن أيضاً من أجل البشرية جمعاء."
إعادة تأهيل بوش
وإذ يتدبر فيما حصل بعيد مناظرة رئاسية جرت في عام 2008، والتي تبنى فيها الخطوة الجريئة المتمثلة في التنظير لأهمية العمل الدبلوماسي والحاجة إلى الحوار مع أعداء أمريكا (وتعرض بعدها لهجوم من قبل تيار اليمين لأنه بدا "ناعماً") يقول أوباماً موضحاً: "حسبما أرى، كان ذلك التجاهل للدبلوماسية هو الذي أدى بهيلاري (كلينتون) والبقية – ناهيك عن صحافة التيار العام – لاتباع جورج دبليو بوش نحو الحرب (في العراق)".
ولكن حتى لو صح ذلك، وهو غير صحيح، لأن الغزو لم يكن له علاقة تذكر بالعمل الدبلوماسي وإنما بالرغبة في بناء الإمبراطورية الأمريكية، مضى أوباما ليختار هيلاري كلينتون نفسها لتكون وزيرة الخارجية في إدارته، وهو المنصب الأهم بعد منصب نائب الرئيس، حيث غدت فعلياً رئيسة الدبلوماسية الأمريكية. كما أبقى في منصب وزير الدفاع نفس الشخص الذي كان قد عينه بوش نفسه.
ثم مضى باراك أوباما وزوجته ميشيل لعمل ما هو أكثر من ذلك في سبيل إثبات ولائهما لمنصب الرئاسة فيما يتعلق بحملات الغزو غير الشرعي والموتى من ذوي البشرة البنية في الأماكن الأخرى، حيث تزعما عملية إعادة تأهيل بوش وتحسين سمعته أمام الجمهور.
يكتب أوباما في مذكراته أنه عندما رافق بوش في الموكب نحو احتفال التنصيب في مطلع عام 2009 رأي المحتجين على جانبي الطريق يرفعون يافطات كتب عليها "حاكموا بوش" و "مجرم الحرب"، في إشارة إلى دوره في الغزو الأمريكي للعراق الذي نجم عنه قتل مئات الآلاف من الناس، وأفضى إلى حالة من العنف الذي لا يكاد ينتهي، وترك البلاد في حالة من الدمار الشامل.
يعترف بأنه شعر بالغضب نيابة عن بوش، ويقول في ذلك: "بدا الاحتجاج ضد رجل في الساعة الأخيرة من رئاسته أمراً سمجاً ولا ضرورة له. وبشكل عام شعرت بالانزعاج بسبب ما كانت تقوله هذه الاحتجاجات في الدقائق الأخيرة عن الانقسامات التي كانت تعتمل في أرجاء البلاد – وبسبب تقويضها لحدود اللياقة التي كانت دوماً تحكم العمل السياسي فيها."
ناهيك عن التوصيف المريع للمحتجين المعارضين للحرب، من الواضح أن أوباما يتظاهر بالتدبر حين يضيف أن انزعاجه "ربما كان لمصلحة ذاتية". وفعلاً كان الانزعاج بكل تأكيد منطلقاً من مصلحة ذاتية. وكما هو حال جل ما ورد في الكتاب، يظن أوباما أن القراء سوف يغفرون له لمجرد أنه يتحدث بشفافية حول غروره. ولكننا لن نغفر له ذلك.
في 2019 كتبت لوسي ديافولو عن سعي آل أوباما لإعادة تأهيل بوش واصفة الظاهرة بأنها نمط من "التضامن الطبقي"، حيث كتبت تقول: "فكرة أن ميشيل أوباما تشترك مع جورج دبليو بوش في بعض القيم تثبت كيف تجمع السلطة بين أصحاب النفوذ، حتى لو كانت، كما قالت، ثمة اختلافات بينهم حول مسائل السياسة. (مع أن سجل زوجها بشأن الترحيل والهجمات بالطائرات المسيرة لا يختلف كثيراً عن سجل بوش).
التوحش الأمريكي
ولكن هناك على الطريق المزيد من الأفكار الفظيعة. فحينما يصف مدى التوحش الأمريكي في أفغانستان والعراق، يتظاهر أوباما بالتدبر تارة أخرى حين يتساءل عما إذا نجم عن استخدام أمريكا للتعذيب، وللمواقع السوداء، والمراقبة وتعذيب من يجري معهم التحقيق بالإغراق بالماء أن "الناس داخل وخارج الولايات المتحدة يشكون في التزام بلدنا بسيادة القانون." وكأنما في ذلك خلاف على الأمر.
لقد شاركت الحكومة الأمريكية على مدى عقود في أعمال إرهابية تنظمها الدولة، كما أسقطت حكومات، ووسعت دائرة نفوذها، ووسعت حدودها الأيديولوجية سعياً منها لبناء امبراطورية وللحفاظ عليها. ولكن، طبقاً لأوباما، ما أن أصبح رئيساً حتى أدرك بأن كل ذلك ما هو سوى وجهة نظر لدى أولئك الذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً.
وفي ذلك يقول:
"لقد تقدمت بما اعتبرته مواقف واضحة إزاء كل تلك القضايا أثناء الحملة الانتخابية. ولكن كان ذلك انطلاقاً من المقاعد الرخيصة، قبل أن يغدو مئات الآلاف من الجنود والبنية التحتية الهائلة للأمن القومي تحت إمرتي. فمن الآن فصاعداً، سوف أكون مسؤولاً عن التصدي لأي هجوم إرهابي على البلاد، وكل حياة أمريكية نفقدها أو تصبح مهددة، سواء في الداخل أو في الخارج، فهي من مسؤوليتي. لقد باتت تلك الحروب من الآن فصاعداً حروبي أنا.
لقد نافست على الرئاسة لكي أعيد بناء ثقة الشعب الأمريكي – ليس فقط في الحكومة ولكن أيضاً في بعضهم البعض. إذا وثق بعضنا ببعض، فإن الديمقراطية ستنجح. إذا وثق بعضنا ببعض فإن البنية الاجتماعية ستظل متماسكة وسنتمكن من حل المشاكل الكبيرة مثل ركود الرواتب وتداعي الأمن التقاعدي."
باعترافه هو كان أوباما ما يزال مبتدئاً في السياسة عندما اختار المنافسة على الترشح للرئاسة. لم يكن منظماً اجتماعياً مخضرماً ولا مشرعاً متيناً. وكانت خبرته في مجلس الشيوخ محدودة جداً. وفيما عدا الخطبة الألمعية التي ألقاها في مؤتمر الحزب الديمقراطي عام 2004، لم يكن لديه الكثير ليقدمه سوى بعض الكلمات الجميلة. دخل إلى الساحة في وقت كان الأمريكيون فيه يئنون تحت وطأة سنوات من الغباء والحماقة لإدارة بوش، والتي ورطت الولايات المتحدة في حروب لا نهائية في كل من العراق وأفغانستان.
وجه التغيير
تمكن أوباما وفريقه بعناية فائقة من تسويق دخوله إلى حلبة التنافس على الرئاسة باعتبار أنه وجه التغيير الذي كان الديمقراطيون في أمس الحاجة إليه. وبدا للناس حينها كما في دعاية تجارية لمنتج من منتجات غاب أو بينيتون ناعماً هادئاً وبصيراً، أشبه ما يكون بفيديو أغنية شعبية يطرب لها الأمريكيون ويرقصون على أنغامها. كان أسوداً، ولكنه درب جيداً حتى لا يسبب أداؤه لأحد ضيقاً.
تم تعويض النقص في خبرته من خلال شهادات النخب السياسية لصالحه وتأييدهم لترشحه، ومنهم عائلة كينيدي. أما معارضته للحرب في العراق فتم التغلب عليها من خلال زيارة خاصة قام بها قبل أسابيع من الانتخابات للقوات الأمريكية في الخارج (حيث عمل فريقه على ضمان أن يتم تصويره مع الطيارين داخل إحدى المروحيات).
إلا أن انعدام الخبرة السياسية كان يعني أنه بينما فهم الاستعمار والعنصرية وانعدام المساواة الهيكلية، ورغم إجادته لاستخدام هذه المصطلحات في خطاباته، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحفزه بأي شكل من الأشكال لكي يخفف من طموحه الشخصي. وكان ذلك في غاية الوضوح.
والحقيقة هي أن توصيف أوباما المفصل لنشوة الدخول إلى البيت الأبيض للمرة الأولى كان امتداداً لتحقيق الوعد الأمريكي وليس تكريساً للاستثناء المحيط بظروفه هو. تجده يتلقف الغرف الأنيقة والأسقف المزخرفة واللوحات المعروضة كما لو كانت في المحصلة جلباً لأسلافه وللناس المحرومين إلى طاولة السلطة. لا يتجلى هذا التنفيس بالأخذ بأيدي السود إلى الأمام وإنما يتجلى بوجوده هو ذاته داخل البيت الأبيض.
وإذ يصف دموع العاملين السود من أصول أفريقية داخل البيت الأبيض، والذين يعبرون له عن مدى سعادتهم بوجوده داخل المكتب البيضاوي، يختار أوباما عن قصد ألا يكون مصدر إزعاج لأحد، لدرجة أنه يتجنب أن يظهر كما لو كان مهتماً جداً برفع أصوات السود أو الانتصار لمشروع العدالة العرقية. ما ينهمك فيه بدلاً من ذلك هو صناعة السلال الأنيقة.
يتعمد ألا يتقدم بالنقاش إلى الأمام، ويتعمد أن يضع نفسه في موقع البراغماتي المحمل بالأعباء. يركز بدلاً من ذلك على أن يتصرف بكونه رئيساً للشعب، فيتم تصويره وهو يعدو بين المكاتب مع صديقه جو بايدن.
إنه القبطان الهادئ. وتلك هي الصورة التي روجت لها وسائل الإعلام الليبرالية. لقد جند أوباما سواد بشرته ليمنح الأمل لملايين السود الذين طالما عانوا القهر والحرمان، ولكنه في نفس الوقت يبدد مخاوف الأمريكيين البيض من خلال الظهر بمظهر الرئيس الذي يضرب الأشرار في الخارج وينأىبنفسه عن الأفكار الراديكالية التي تثير لديهم الهواجس والمخاوف.
تراه يستجيب للنداء بأن يتحول إلى جوشوا العهد القديم، ولكنه يحول السلطة الثقافية للسود إلى سلاح يستخدمه ليخرس الدعوات المتسارعة المطالبة بتحقيق العدالة العرقية والاقتصادية.
وإلا فلماذا يختار بايدن نائباً له، وهو الذي وافق على الحرب في العراق ويؤيد الفصل ويقوض الأمن الاجتماعي، لولا أنه يحتاجه لكي يبدد مخاوف الناخبين البيض.
الإحساس بالعامة
يبذل أوباما في مذكراته جهداً لذكر أسماء العاملين في الحديقة والعاملين في المطبخ، وكل أولئك الذين أرسلوا خطابات تذكارية إلى البيت الأبيض. يمتعض من الرسميات والتظاهر ويلح على الجوانب العملية. وقد كتب عن ذلك يقول: "استغرقنا الأمر شهوراً من الإقناع قبل أن يوافق العاملون في المطبخ على استبدال الزي الرسمي بقمصان البولو أثناء تقديم الوجبات لنا".
يقصد من ذلك تبيان الإحساس بالعامة لدى الرجل، وهذه تارة أخرى مجرد رمزيات في رئاسة تركت في نهاية المطاف السائقين وعمال الحدائق العاديين على أوضاعهم دون تحسن يذكر مع انتهاء فترته الرئاسية الثانية. ذلك النوع من الإدارة التي لم تشعر بالخجل من التقارب مع أغنى رجل في العالم، جيف بيزوس، وامبراطورية أمازون المملوكة له لدرجة أن جاي كارني، السكرتير الإعلامي السابق لأوباما (2011-2014) ما لبث أن غدا رئيس العلاقات العامة والسياسة العامة في أمازون.
من المؤكد أن أوباما لا يتحمل المسؤولية عن قرارات موظفيه السابقين ولكن اختياراتهم تخبرنا بالكثير عن هوياتهم.
حتى لو افترضنا أن اهتمام أوباما بتفاصيل الأسماء والوجوه حقيقي، وهو ما نراه مستبعداً جداً، وليس جزءاً من السعي لأن يبدو مهتماً بشؤون العامة (وهو ما يعترف هو نفسه بأن كاتب خطاباته بن رودس كان يمازحه بشأنه)، فكان ينبغي عليه أن يذكر على الأقل اسم مدني واحد قتل بسبب الحروب التي ورثها ثم، كما يعترف بلسانه، جاء هو ليقودها بنفسه. ولكنه لا يفعل.
وبدلاً من أن يكرر على مسامعنا التضحيات التي قدمتها زوجته وابنتاه بسبب فقدانهم للخصوصية تحت وطأة جنون مسعاه الرئاسي، كان من الأفضل له أن يتدبر في الثمن الذي تكبده الإمبراطورية الأمريكية للأطفال الذين فقدوا أمهاتهم وأباءهم بسبب الأسلحة الأمريكية أو الأنظمة السلطوية التي تدعمها الولايات المتحدة خدمة للمصالح الأمريكية.
يقول في مذكراته:
"ولكن الحروب الفعلية في أفغانستان والعراق لم يكن فيها قصف عشوائي أو استهداف متعمد للمدنيين، الأمر الذي كان جزءاً روتينياً حتى من الحروب "الجيدة" مثل الحرب العالمية الثانية، وفيما عدا الاستثناءات الصارخة مثل أبو غريب، تخلقت قواتنا في مسرح العمليات بمستوى رائع من الانضباط والمهنية."
ويمضي قائلاً:
"كما بدا لي في حينه، كانت مهمتي هي إصلاح تلك الجوانب من جهودنا في مكافحة الإرهاب التي كانت تحتاج إلى إصلاح بدلاً من هدمها عن بكرة أبيها حتى نبدأ من جديد."
تاريخ مصطنع
بدلاً من الاحتفاء بالتزام أمريكا بتعزيز الديمقراطية حول العالم، كان الأجدر به أن يتدبر في الفوضى العارمة التي أنجبتها إدارته. ولكن جنوب السودان لا يحظى بأي ذكر في كتابه، ولا حتى الأطفال الذين تساعد أموال إدارته في تجنيدهم واستغلالهم.
وكذلك، بدلاً من سرد تفاصيل تدخله، الذي كان أشبه شيء بعمل رجال العصابات، في مؤتمر مهم حول المناخ في عام 2009، حيث حضر دون سابق إشعار ليلتقي برؤساء حكومات الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند، ثم خرج بتوقيعهم على ما أصبح يعرف من بعد باتفاق كوبنهاغن، كان الأجدر به أن يشرح لماذا يُعتبر الجيش الأمريكي أكبر ملوث للبيئة على سطح الكوكب.
كتب أوباما عن ذلك يقول:
شعرت بإحساس جيد، فعلى أكبر خشبة مسرح، وحول قضية ذات شأن، وبينما كانت عقارب الساعة تدور، أخرجت أرنباً من القبعة".
أحياناً يكون الإعجاب بالذات كريهاً جداً. وفي بعض الأوقات يبدو التقيؤ اللانهائي كما لو كان توقيفاً للتعويض من قبل رجل فخور لا قبل له بأن يواجه صورة ما صنعت يداه.
تبدو الفقرات الطويلة معاً كما لو كانت هذياناً من رجل يأمل في أن تنجح إحدى التفسيرات في إنقاذ التركة. ولكن لا التوصيفات المثيرة ولا التلاعب الذكي بإمكانه أن يخفي حقيقة أن "الأرض الموعودة" لا تختلف عن الليدي ماكبيث وهي تغسل يديها بهستيرية.
قد يكون أوباما أول رئيس أسود لأمريكا، وقد يعتبر الأكثر سحراً وعذوبة لسان، وصورته مع الطيارين على صفحة إنستغرام الأكثر جذباً، ولكن عندما ينقشع الضباب وتذوي السير التقديسية سيكشف التاريخ كم كان هذا الرجل رئيساً عادياً جداً لأمريكا.
(عن موقع ميدل إيست آي البريطاني، مترجم خصيصا لـ"عربي21")