"أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك
المراء وإن كان محقاً".. هذه
الكلمات ذكرت على لسان سيد الخلق والخُلق، من نقتدي بسنته وعلى هداه نسير، فلماذا ننفعل
بالنقاش ونحتد حتى تحمرّ الأوداج وترتفع الأصوات وكأنها في معركة حامية الوطيس، وعليه
إما أن نموت أو ننتصر؟! لا أستثني
نفسي فأنا ضحية هذا الشعور والتصرف أحيانا، بيد أن السؤال المشروع الذي يفرض نفسه هنا: لماذا نتورط بذلك؟ كم خسرنا من علاقات وفقدنا
من صداقات بعد حوار حاد تحول لجدال ثم شجار انتهى بفراق وخصومة باقية؟
يغضب صديقك منك عند مجادلتك له؟ بل خلاف
في وجهات النظر قد يفتح الباب مشرعا لمخاصمتك وقطع علاقته بك، أما إذا كان ذا منصب
وجاه فهذا قد يكون كفيلا بإبعادك وتهميشك رغم كل ما حدث من جميل بينكما!
تخيل أن تصبح أسير منهج "إيثار السلامة" وراحة البال بامتناعك عن التعبير عن رأيك
وإبداء وجهة نظرك! فلا ذو السلطان
يقبل به ولا رفيق النضال إن كنت مناضلا بل حتى أفراد أسرتك، ليس زهدا بعلمك وثقافتك
ولكنّ آذانهم لم تعد تطرب إلا لمن يغازلها ويخطب ودها وينمق لها الحديث الذي يعجبها.
أنت لست منهم ولكن الصدق ثمنه غال، القول
الصريح ضريبته عالية؛ وعليه يصبح الصمت رفيقك حتى يُظن بك العجز أو قلة الزاد، وما
دروا أنك تنأى بنفسك عن دخول نفق لا نهاية له وعراك لا غنيمة فيه.
في هذا السياق يذكرنا الإمام الشافعي بقوله:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم
إن الجواب لباب الشرِ مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف
وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
يبدأ الحوار عاديا بل هو مُنمّق ومطلوب،
وإنّما تكمن المشكلة في تحوله لجدال يتعامل معه المرء بانفعال زادت نيرانه اشتعالا
بانتقاله من نقد الفكرة إلى نقد الشخص، وليس كل امرئ فينا حليم لدرجة اتساع صدره بأريحية
للنقد الشخصي وعليه ينفعل في ردّه. ومن ثم يؤدي انفعاله إلى توجيه الطرف المقابل نقدا
آخر له، والنقد الآخر يؤدي إلى انفعال جديد، وهكذا تدخل في دوامة مفرغة من التوتر.
ماذا لو علمت أنّ شرَ النّاس من ودعه - تركه
- الناس اتقاء شرّه؟! وهل سألت نفسك إن
جسدت بالفعل ذلك الشخص؟!
الأيام برهنت أن الانفعال والصراخ والفحش
في الكلام عند
النقاش علامة ضعف وانعدام حجة فضلا عن كونه سوء أدب وافتقاد حلم، والناس
يتجنبون مثل هؤلاء حفاظا على صحتهم.
جاء في سير التابعين أنّ الإمام أحمد بن
حنبل سأل التابعي الجليل حاتم الأصم حين قدم إلى بغداد عن طريقة السلامة من الناس والتخلص
من أذاهم، فقال له الأصم:
يا أبا عبد الله في ثلاث خصال.
قال: وما
هي؟
قال: أٔنْ
تُعطيهم مالكَ ولا تأخذ من مالهم شيئاً.
قال: وتقضي
حقوقَهم ولا تستقضي منهم حقاً.
قال: وتحمل
مكروههم ولا تُكره واحداً منهم على شيء.
فأطرق أحمد ينكت بإصبعه الأرض ثم رفع رأسه
وقال:
يا حاتم.. إنها لشديدة!
فقال له حاتم: وليتكَ
تسلم وليتك تسلم وليتكَ تسلم!!
وعلى رأي حاتم لو كانت يدك هي العليا فتعطي
ولا تأخذ، ولو كنت تقضي حوائج الناس دون أن تكلّفهم بشيء وتتحمل منهم المكاره دون تحمّلهم
شيئاً فقد لا تسلم منهم جميعاً؛ فيبدأ الهمز واللمز: ما
مصلحة فلان المرجوّة من مساعدة فلان؟ والسؤال يكون مريبا أكثر إذا انتهت بناء التأنيث "فلانة"! وكأنّ مصطلح العمل
لوجه الله غير مُدرج في حساباتهم! فكل
فعل خير تقوم به محل شك، وكل حوار تخوضه معهم محل امتحان وإيجاد ثغرات، حتى لا تغتر
وتعجب بنفسك، فهم يسعون إلى تحجيمك والانتقاص منك. وأسوأ ما في هذا النوع من يفعل ذلك
صراحة؛ مبررا فعله لمن حوله بالحرص على تعزيز قيمة التواضع لديك!!
تختلف أهداف الناس في التعامل، ويبدو الشيء
الواضح الذي لا جدال فيه ولا غبار عليه هو أنت، وما تختاره لنفسك وما تريده لمستقبلك
وما تسعى لتحقيقه في حياتك والأثر الذي تريد تركه بعد مماتك، وحينها تصغر كثير من الأمور
في عينيك ويغدو شعارك ما قاله المتنبي:
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
لقد وصلت للمرحلة الملكية، فلا يعود جدال
أحدهم مغريا لك، ولا النزاع مع آخر على منصب أمرا ذا قيمة في ميزانك. علّمني مرة أستاذ
له فضل - بعد الله - عليّ، حكمة عظيمة تقول: "إذا ربك سبحانه وتعالى أعطاك مفتاحا
ما فلا تتخلّ عنه ولا تتركه، ولكن إذا نازعك الناس إياه فلا تنازعنهم عليه، أعطهم إياه
واذهب؛ فالمفتاح وسيلة وليس غاية".
وعليه كلام من القلب من أجلك: لا تنفعل ولا
تحتد، فأنت أولى بصحة جيدة ولا شيء يستحق، واترك لهم المفتاح ولا تكسره.