قضايا وآراء

ثلاثية الاكتئاب والوحدة والإبداع

مريم الدجاني
1300x600
1300x600
ما الذي يجعل شخصا ما مبدعا؟ ما نعرفه بشكل مؤكد أن بعض الأفراد أكثر إبداعا من الآخرين. نحتاج فقط إلى مقارنة روائع دافنشي ومونيه بمحاولاتنا الشاقة في رسم وعاء من الفاكهة لاستنتاج أن الإبداع الفني هو شيء فردي وغير قابل للتغيير.

تؤكد معظم تعاريف الإبداع على الجِدّة والأصالة، متوازنة مع المنفعة. وهذا يعني أن الإبداع يمكن اعتباره تطوير حلول جديدة ناجحة، أو توفير تجارب ممتعة للآخرين. لا يوجد حتى الآن أي تعريف مقبول ومتعارف عليه عالميا. وعلى الرغم من أن الكثيرين قد يجادلون بأن الإنجازات الإبداعية هي الشكل الأكثر وجاهة للإبداع، إلا أن تحقيق الاعتراف بالإبداع قد يعتمد على عوامل تتجاوز التفكير الإبداعي. فقد كان النهج السائد هو دراسة المخرجات الاجتماعية والشخصية للإنجاز الإبداعي لهؤلاء الأفراد على مدى حياتهم. لكن لتحقيق الشهرة، قد يحتاج الناس إلى الدوافع القوية، وكذلك الفرص الاجتماعية والموارد التي تسمح للترويج لعملهم.

ومع ذلك، هناك أبحاث عديدة تظهر أدلة على وجود عوامل قوية متعلقة بالظروف تؤثر على الإبداع. في بعض الحالات، يمكن أن تخلق العواطف السلبية الشديدة التفكير القوي والمثابرة الذاتية، مما يحفز على زيادة الإبداع، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية والعوامل الظرفية المتعلقة بالإبداع. فنجد أنه عندما يكون الأفراد عرضة بيولوجيا للتأثير السلبي ويتعرضون لحالة تؤدي إلى مشاعر سلبية شديدة، فإنهم يظهرون الإبداع الفني بشكل أكبر.

إذا اعتبرنا أن الفن هو تجلي روح لا يشبعها ما هو موجود، وتجد الوجود أمامها باهتا وقبيحا وقليلا، يصبح الفن أو الإبداع هو فلسفة للبقاء. وكما يقول نيتشه: لقد اخترعنا الفن كي لا نموت من الحقيقة. إن الفن في حد ذاته، وربما الأدب بوجه خاص، رفض للعالم القائم، وتعبير عن النقصان وعن قلق الوجود. إن من يشعرون بالراحة لأحوالهم ويعشقون الحياة عموما ويرضون عن حياتهم خصوصا؛ لا يحتاجون لاختراع عالم مواز عن طريق الفن أو الكلمات.

كان البشر الذين تم تصنيفهم كمبدعين هم من أكثر المجموعات تأثرا بالاكتئاب، ويمكننا اعتبار إرنست همنغواي، وفيرجينيا وولف، ومايكل أنجلو من أبرزهم. فهل السبب الرئيسي هو عقولهم المتميزة أو يمكن أن يكون شيئا آخر؟ لقد تم إثبات أننا كنوع إنساني ننجذب إلى أولئك الذين يشاركوننا اهتماماتنا ونتشابه معهم في الأفكار. أثبت العلم هذه الحقيقة أكثر من مرة، مثل دراسة نيوكوم ١٩٥٦ عندما خرج بأن الرجال يميلون أكثر للخادمين في المنازل عندما يشاركونهم نظرتهم تجاه الجنس والعائلة والسياسة. وهذا لأن الإنسان يستمتع عندما يشعر بالتحقق من نفسه أو الإعجاب بالآخر عندما يكون مماثلا للذوق العام لغيره، ويكون التواصل أسهل مع الناس الذين يحملون نفس الاهتمامات. لذا من المنطقي اعتبار الإنسان الذي لا يستطيع العثور على مثيل له في طريقة التفكير وحيدا نسبيا، ويمكن أن يقوده هذا إلى الإصابة بالاكتئاب.

إن البشر المبدعين يحملون ذلك النوع المميز من العقول، ولهذا يمكننا أن نستخدم العبارة المستهلكة: أن لا أحد يفهمهم.

ومع هذا، فإن دراسة نيوكوم تعتبر ناقصة على عدة مستويات، فهي منحازة للذكور، وعيّنة الدراسة تعتبر قليلة نسبيا، لهذا لا يمكن تعميمها. وهذا يعني أنه إذا كانت الناس المتشابهة في الأفكار تتقارب وتحصل على الموافقة والاعتراف، فهذا لا يمكن أن يتم عزل الناس المختلفة من المجتمع. إذا ما الذي يسبب الاكتئاب عند الجزء المبدع من المجتمع؟

في عام ٢٠٠٥ قامت العالمتان أكينولا مينديس بدراسة تحت عنوان "الجانب المظلم للإبداع"، حول دور الرفض المجتمعي عند الحديث عن الإبداع. لقد تم تزويد المشاركين في الدراسة بتفاعل سلبي أو إيجابي أو بدون تفاعل في اختبار محادثة، ثم طُلب منهم القيام بعمل فني ما يسمى "كولاج"، وهو تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فني جديد.

المشاركون الذي كانوا قد تعرضوا للتفاعل السلبي أو الرفض بشكل عام قاموا بأعمال فنية أكثر إبداعا؛ من المشاركين الذين تعرضوا للتفاعل الإيجابي أو كانوا من المجموعة المحدِّدة. هذا يوصلنا إلى أن الرفض المجتمعي هو عارض محدَّد ربما يكون مسؤولا عن زيادة الإبداع. أي أن الاكتئاب يؤدي إلى الإبداع بدل المتعارف عليه، وهو أن الإبداع يسبب الاكتئاب.

من المهم جدا التفكير بشكل نقدي في الفن للوصل إلى الاستخدام الأمثل للقدرات، لكن مشكلة التفكير الزائد أنه عادة ما يوصل إلى الشك بالذات، ومن ثم عدم الثقة بالنفس مما يمهد الطريق للاكتئاب. وربما يكون سبب إصابة المبدعين بالاكتئاب أنهم قد تعودوا على نقد أعمالهم، وهذا قد يؤدي بشكل تدريجي إلى أن يبدؤوا بنقد أنفسهم والحكم عليها. فعندما يلوم الإنسان نفسه على فعل ما يصبح من الصعب التمييز بين الاثنين، خاصة عندما يتفانى الإنسان في عمل ما، فإنه يكون كمن يصنع نفسه. إن جل عمل الفنان أن يرقص على خط النار، وهنا قد يكون الاستمرار في الرقص صعبا جدا في أحيان كثيرة.

وبالنظر إلى أن الحلول الإبداعية هي بحكم تعريفها غير عادية ونادرة وربما مثيرة للجدل، فإنه لا بد أن تحفزها الرغبة في التميز والتأكيد على تفرد الفرد، لذا قد تؤدي تجربة الرفض بدلا من خنق الإبداع إلى عملية تحفيز نفسية للإبداع اللامؤطر واللامنتهي!

كتب ألدوس هكسلي: "إذا كان المرء مختلفا، من المحتم أن يكون وحيدا"، وعند التفكير في الأمر قليلا، سرعان ما أصبح واضحا أن العديد من العباقرة المبدعين في التاريخ كانوا أشخاصا وحيدين بشدة. وهناك سبب واضح لذلك: وهو تكريس المرء للسعي الفني أو الإبداعي يعني أن المرء لديه القليل من الوقت للمساعي الاجتماعية، حتى أن بعضهم يعتبر أن الوحدة ليست فقط كافية للإبداع؛ بل إنها ضرورية.

يبدو الأمر كما لو أنه يمكن للمرء أن يكون مبدعا فقط عندما ينفصل عن المجتمع. فعندما ندع تركيزنا يتحول بعيدا عن الأشخاص والأشياء من حولنا، نكون أكثر قدرة على الانخراط في عملية التفكير الناقد والتفكير في أفكارنا الخاصة، التي تنتج لنا المخرجات الإبداعية.

وتكمن الصعوبة هنا في تحقيق التوازن. هناك العزلة، والتي يمكن أن تؤدي إلى إدراك الإدراك (ما وراء المعرفة) والتركيز الإبداعي. ولكن هناك أيضا، كما عاش فان جوخ أثناء حياته، وهو الشعور بالوحدة الذي يعيق الإبداع. شعرة رفيعة تفصل بين المساحتين.. تعتبر الوحدة والاكتئاب (كما اعتبرها همنغواي "مكافأة الفنان") عنصرين أساسيين وراء قيام العديد من الفنانين الكبار من همنغواي إلى بلاث إلى هانتر طومسون بالانتحار. ولكن تحليل الفرق بين العزلة، حيث يكون الفرد وحيدا عن قصد وسعادة، والشعور بالوحدة، حيث يكون المرء يائسا مكتئبا لأنه وحيد، هي المهمة التي لا ينبغي الاستخفاف بها.

فالعزلة تخلق الأصالة فينا، والجمال غير المألوف والمحفوف بالمخاطر، لكنها أيضا، تلد عكس ذلك: الانحراف، والعبثية، بل المعاقين واليائسين والمحبَطين. وهنا نصل إلى الأكثر إثارة للاهتمام، وهو أنه يجب أن يشعر المبدع بالرفض المجتمعي الحقيقي فقط بطريقة ما، ويجب أن يؤسس شعورا بالاستقلال، انطلاقا من كونه مختلفا عن أقرانه.

في كتاب "The Outsider" لعام 1956، ادعى كولين ويلسون أن العباقرة المبدعين يميلون إلى العيش على هوامش المجتمع، حيث أنهم مرفوضون وغير مطابقين لنمطية الآخرين. ومع ذلك، تجب إضافة فارق بسيط عصبي إلى نظرية ويلسون المعروفة: عندما يصبح الإبداع كل ما يهم، وعندما تتلاشى أحلام التمسك بالمجتمع واعتراف الآخرين، عندها فقط يمكن أن ينتقل التركيز المعرفي للشخص من الجوانب الاجتماعية الثقافية المناسبة أو ما يسمى "fit in"، إلى المساعي الإبداعية في التميز وما يسمى "Stand out".

فهل سيُخرِج هذا التصنيف وهذه الأبحاث معظم المشاهير الحاليين ذوي الجماهير والتابعين - الذين يُطلقون على أنفسهم، أو يُطلق عليهم تجاوزا لقب مبدع - من دائرة الإبداع؟
التعليقات (0)