هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تناولت مجلة "فورين بوليسي" خطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمعالجة ما
أسماها ظاهرة "الانفصالية الإسلامية"، مشيرة إلى أنها "لن تنجح"
إذ تواجه صعوبات دستورية وقانونية إلى جانب معارضة من المسلمين الفرنسيين.
وذكرت كاتبة المقال كارينا بيسر أن خطاب الرئيس ماكرون الجمعة الماضية كان قد
كشف عن خطته لمعالجة ما أسماها ظاهرة "الانفصالية الإسلامية"، بهدف
القضاء على الانقسامات الاجتماعية ومكافحة التطرف العنيف.
وتقول إن ماكرون ليس أول رئيس فرنسي يعد "بإسلام فرنسي جديد"، فقد
قدم رؤساء فرنسا وعودا كهذه، ولكنه يريد أن ينجح فيما فشل به الآخرون، خاصة أنه
وصل إلى الرئاسة في 2017 بعد موجة من العمليات الإرهابية.
وفي بلد يطبق العلمانية التي تعتبر في قلب الهوية الوطنية، فإن الجدل حول الإسلام
أصبح جزءا من الحياة اليومية، بدءا من الحجاب إلى الهوس الجديد بشأن تعدد الزوجات.
وهذا يجعل نهج فرض السياسة من القمة للأسفل أمرا من الصعب تسويقه.
معيقات قانونية
ويقول نقاد ماكرون إن القانون الذي اقترحه وسيبدأ البرلمان بمناقشته سيهمش ستة
ملايين مسلم فرنسي، ويشير آخرون إلى الصعوبات القانونية التي تقف أمام تطبيقه.
وتركز خطة ماكرون على الاستثمار في جيل جديد من الأئمة الفرنسيين الذين يتم
تدريبهم وتأهيلهم داخل فرنسا للحد من "التأثير الأجنبي". ولأن النظام
العلماني يحظر على الحكومة التدخل في الشؤون الدينية فقد اعتمدت فرنسا على ما أطلق
عليه "إسلام القناصل" لإدارة المؤسسات الدينية.
فالجزائر تدير مثلا المسجد الكبير في باريس وتوزع الدعم على المساجد المرتبطة
به حول البلاد. وأرسلت تركيا والمغرب والجزائر أئمة إلى فرنسا. وفي عام 2015 وقعت
حكومة فرانسوا هولاند اتفاقية مع حكومة الملك المغربي لتدريب الأئمة الفرنسيين
بالرباط. واستثمرت تركيا تحديدا في المعاهد الدينية والثقافية في فرنسا، خاصة في
عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.
وخلقت التشابكات الخارجية أزمة في التمثيل والشرعية. فالمؤسسات الإسلامية
الفرنسية لا تعكس التنوع داخل المجتمعات الإسلامية في فرنسا والتي تشكل نسبة 9
بالمئة من مجمل السكان.
اقرأ أيضا: حراك عنصري ضد الحجاب بفرنسا بعد أيام من خطاب ماكرون
وتحاجج حكومة ماكرون أن التدخل الخارجي فتح الباب أمام دخول الأفكار
الراديكالية التي قادت لعدد من الهجمات الإرهابية. ومن هنا فنظرة الرئيس
أيديولوجية ويقول إنها تهدف لتمتين "الإسلام المتنور" و"المتطابق
مع قيم الجمهورية" بدون أن يحدد ما سيترتب على هذا.
ومع أن ماكرون أكد على أن تركيزه في هذه الدعوة هو على "الإسلاموية
الراديكالية" وليس الإسلام كدين إلا أنه مضى في وصفه بأنه "دين يعيش
أزمة في كل أنحاء العالم" بشكل أغضب بعض المسلمين في فرنسا.
معارضة مسلمي فرنسا
وجاء في بيان وقع عليه 100
أكاديمي وناشط وعالم مسلم نشر في "ميديابار": "تتغير
الحكومات لكن الهوس يظل"، وأضاف: "أكثر من الحاجة لقتال ظاهرة الإرهاب
والإجرام يقوم الرئيس ماكرون بالمشاركة في خطابه، وخلق مشكلة مسلمين تستهدف كل
المؤمنين بالدين".
وقالت طالبة الدكتوراة ريم سارة علوني: "كان من المفترض أن يتحدث ماكرون
عن الانفصالية بصيغة الجمع لكنه ركز فقط على الإسلام".
وأضافت أن فكرة "الانفصالية" تحمل في ثناياها مخاطر فتح صندوق
المتاعب والتعصب، خاصة في مجتمع طالما انقسم حول نظرته للراديكالية وما تعنيه.
واعتبرت أن السؤال المهم هو "أين
سترسم الخط؟ فلو ارتدت امرأة مسلمة الحجاب فهل يعتبر هذا نزعة انفصالية؟ بالنسبة
للبعض نعم".
لكن طارق أوبرو، الإمام
الأكبر لبوردو، والذي استشاره ماكرون خلال السنوات الماضية، يخالف هذا الرأي، ويقول
إن الرئيس لم يستخدم لغة تشوه المسلمين، وإنه تجنب أي خلط بين الراديكالية
الإسلامية والسكان المسلمين.
ورغم ذلك فإن أوبرو يعترف بأن مفهوم
الراديكالية ليس محددا، ومن الصعب التفريق بينه وبين الممارسات الدينية المحافظة.
أدوات الخطة
ويدعو ماكرون إلى تدريب
الأئمة ومنح شهادات معترف بها في فرنسا، وتدريس اللغة العربية في مدارس الدولة،
ومنع الفصل بين الجنسين في المسابح التابعة للبلديات، والحد من الخطاب الذي لا
يتوافق مع ما يطلق عليها "قيم الجمهورية"، والتشديد على المؤسسات
الدينية والحد من التعليم البيتي.
وتثير هذه المقترحات "دهشة"
الكثيرين، ويقول مروان محمد، الناشط المعروف والرئيس السابق لمجموعة العمل معا ضد
الإسلاموفوبيا في فرنسا: "إنها خطة شاملة للسيطرة على الإسلام وتنظيمه تدفعها
نزعة قمعية".
وعبرت الطالبة علوني عن نفس الموقف بالقول: "يعيش غالبية المسلمين حياتهم
هنا ويدفعون ضرائبهم ولكن أين موقفهم من كل هذا؟ وهذا أمر مضحك في بلد من المفترض
ألا يتدخل في الدين لكي يبحث عن طرق للتحكم به".
وقالت إن الخطاب كان محاولة من ماكرون لحرف نظر الرأي العام، "يريد منا
ماكرون معرفة أن الانتخابات الرئاسية ستكون عن الهجرة والأمن والإسلام مع أنها يجب
أن تكون عن الاقتصاد وتفكيك المؤسسات العامة والإدارة الفقيرة في مواجهة
كوفيد-19".
وشهدت فرنسا زيادة حادة في الإصابات بكورونا الأسبوع الماضي، وفرضت معايير
إغلاق جديدة في كل البلاد.
تناقض مع العلمانية
وبعيدا عن النبرة الخطابية في كلام ماكرون فمن الصعب تطبيق معظم ما يقترحه في
بلد علماني خصص مساحة واسعة للدفاع عنه في خطابه. فقانون فصل الدين عن الدولة
الصادر عام 1905 يحظر على الدولة التدخل في الشؤون الدينية.
ويقول أوليفر روي، الخبير في الحركات الإسلامية والمحاضر بمعهد الجامعة
الأوروبية في فلورنس: "هذا تناقض ظاهري: الدفاع عن العلمانية من خلال خطة تدخل
الدولة في الدين، لهذا السبب لم يتم عمل أي شيء خلال السنوات الماضية".
اقرأ أيضا: أردوغان يهاجم ماكرون ويصف تصريحه عن الإسلام بـ"الوقح"
ولأن الدولة لن تمنح الرخص والشهادات للأئمة فسيقوم ماكرون بتقوية المجلس
الفرنسي للدين الإسلامي الذي أنشأه نيكولاي ساركوزي عام 2003. إلا أن تقوية هذا المجلس هو ضد خطة ماكرون بخلق إسلام فرنسي مقابل الإسلام المتأثر بالخارج. فلم يسمع
بالمجلس من المسلمين الفرنسيين إلا الثلث، وذلك حسب استطلاع عام 2016.
وانتقد البعض الشكل الغامض للقيادة في هذا المجلس والتأثير الأجنبي عليه. وقال
الإمام أوبرو العام الماضي إن "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي هو هيئة مفروضة،
إسلام مغربي- تركي".
أما بالنسبة للناشط محمد فالمشكلة أعمق، ويقول: "النقد الأهم للمجلس هو
أنه يمثل دولا أجنبية ولأنه خيب أمل المسلمين الفرنسيين"، خاصة فشله في
انتقاد السياسات والقوانين التي تميز ضد المسلمين.
ويقول الخبير بالحركات الإسلامية أوليفر روي: "الدولة لا تستطيع خلق إسلام
"جيد" ولهذا فالمهمة ملقاة على المجلس الفرنسي للدين الإسلامي"،
وبالتالي "سيكون المجلس امتدادا للدولة وأكثر مما كان عليه في الماضي".
وأضاف أن ما ينقص هذا المشروع هو
"الإنسان المسلم العادي الذي يذهب إلى المسجد، ونحن لا نعطيهم الخيار أو نسمح
لهم باختيار أئمتهم، فنحن لا نفرض حاخاما بعينه على كنيس أو قسيسا على
كنيسة".
وإلى جانب ذلك تبرز مشكلة تطبيق الخطة. ويرى روي أن "هذا سيكون ضد
الدستور، وسترفض على باب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان".
ومع أن خطة ماكرون تركز على الإسلام
بشكل خاص إلا أن أي تشريع برلماني سيتم تطبيقه على كل الأديان، ذلك أن قانون 1905
ينص على التساوي بين الأديان أمام القانون.
ويرى الإمام أوبرو ضرورة أن "يعالج القانون كل أنواع الانفصال سواء كانت
قومية أو عامة وليس ضد مجتمع بعينه" حتى لو كان هدفه الأساسي هو
"الراديكالية الإسلامية". ولو وجد المسلمون أن القانون يستهدفهم بطريقة
غير متناسبة فسيقود هذا إلى معارك في المحاكم.
وعندما يتعلق الأمر بمراقبة الفصل في
المدارس الإسلامية فيجب أن ينسحب أيضا على المدارس الكاثوليكية واليهودية حتى
يتساوق مع روح قانون 1905.
ولم يفت اليمين المحافظ دلالات قانون ماكرون الذي لن يحد من الحرية الدينية
للمسلمين بل وبقية الأديان.
ونشرت الجبهة القومية بيانا قالت فيه إن ماكرون وباسم مكافحة الراديكالية
الإسلامية يطلب من الفرنسيين الحد من حريتهم. وطالب يمين الوسط المتطرف بملاحقة
الهجرة مع أنه أعجب بملامح من خطة ماكرون. وهاجم اليسار ماكرون لأنه ركز على الإسلام
باعتباره الشكل الوحيد للانفصالية الموجودة في المجتمع الفرنسي.
ويعكس النقد السياسي لماكرون عادته للانحراف
عن الخطاب السياسي وتقديم وعود في الوقت الذي فشل فيه بتوسيع قاعدته الانتخابية.
وقال روي: "لأكثر من 20 عاما حاول الرؤساء حرمان الجبهة الوطنية من الأصوات، وفشلوا
في العشرين عاما".
أغراض انتخابية
وفي الفترة الماضية زاد ماكرون من تأكيده على الهوية الوطنية والأمن، على أمل
جذب الناخبين من اليمين المتطرف وتحضيرا للمواجهة مع ماري لوبان في انتخابات 2022.
ورغم اعتراف ماكرون بدور الدولة الفرنسية بخلق حالة الانفصال، كما هو واضح في
الضواحي التي يعيش فيها المهاجرون وتنقصهم الفرص التعليمية والاقتصادية، إلا أن
اليسار أشار إلى الدور غير المقصود الذي لعبه ماكرون في لفت الانظار إلى فشل
رئاسته.
ويطلق على ماكرون اسم "رئيس الأغنياء"، نظرا لسياساته التي فضلت
رجال الأعمال وإلغائه الضريبة على الثروة. ولم يفعل الكثير لتخفيض حالة العزلة
داخل الضواحي أو يحسن الظروف الاقتصادية.
ويقول الناشط محمد: "الكلام رخيص لأن ماكرون تخلى عن الضواحي، ولم يعترف
أبدا بعنف الشرطة، وفضل بشكل دائم مصالح الشركات على حساب المبادرات الاجتماعية
سواء كانت تعليمية أو صحية أو خطط إسكان، وسياساته تتناقض مع أعماله".
اقرأ أيضا: المسلمون في أزمة لكن فرنسا في أزمة أخطر
ويحرص ماكرون على جذب أصوات اليمين أكثر من اليسار. وفي التعديل الوزاري في
تموز/يوليو عين وزير داخلية محافظ متشدد. وظلت حكومته تتحدث عن الأمن رغم استقرار
العنف بل وتراجع الجريمة.
وجاء خطاب ماكرون الأخير على خلفية
محاكمة المتورطين في هجوم المجلة الساخرة شارلي إيبدو عام 2015. ومع أن الإسلام
المتنور، وفقا لخطة ماكرون، هو ما سيقف أمام التدخل الأجنبي إلا أن الرئيس مخطئ في
نظرته فالهجمات الإرهابية التي نفذت على التراب الفرنسي لم يرتكبها أجانب بل فرنسيون
لديهم تاريخ في الجريمة.
ويقول الخبراء إن معظم هؤلاء تشددوا من خلال الإنترنت وخارج المؤسسات الدينية
المعروفة. وأشاروا إلى تزايد نزعات السلفية الفرنسية التي لن تفلح معها سياسات
إغلاق الحدود أمام التأثير الأجنبي.
وقال أوبرو: "في معظم الأحيان ولد
أكثر المتشددين في فرنسا"، مشيرا إلى من نصبوا أنفسهم أئمة لنشر أفكارهم داخل
فرنسا.
ويرى روي، الذي طالما ناقش أن
السياسات الاجتماعية وليست المعارك الأيديولوجية هي الكفيلة بحل مشكلة التطرف، أن
خطة ماكرون نابعة من سوء فهم للدين، وقال: "نحن نتصرف وكأن الدين متفرج سلبي
وما نحتاجه هو تغيير الداعية لكي يغير الدين وليتغير المؤمن، وليس بهذه الطريقة
تحل الأمور".