الأزمة الليبية الحالية كاشفة بشكل كامل لعوار النظم السياسية في المنطقة. وإذا كانت الوقاحة متوقعة من النظم العربية غير الديمقراطية في علاقاتها الدولية، فإن التصرف ذاته لم يكن متوقعا من الحكومة الفرنسية الحالية. وللأسف، فإن هذا يتم تحت رئاسة رئيس فرنسي شاب من خارج الأحزاب التقليدية، توسم فيه كثيرون خيرا في أن يكسر معادلة الميراث الاستعماري السيئ الذي تتسم به
السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الدول العربية والأفريقية.
بحكم المعادلات الاستراتيجية وقواعد الأمن القومي والعسكري، يمكن تفهم تدخل دول مثل إيطاليا في الملف الليبي، أخذا في الاعتبار التاريخ القديم والحدود البحرية المتقاربة، هذا بالإضافة للمخاوف المتكررة من مسائل الهجرة غير القانونية وغيرها من القضايا. لكن ما لا يمكن فهمه هو دخول
فرنسا على الخط من دون أي مبررات منطقية في الأعراف الدولية.
إن كل المخاوف التي أطلقتها فرنسا حول الوضع في
ليبيا هي مخاوف أوروبية بالأساس، وقد تم التعامل معها على صعيد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والتنسيق الأوروبي الدفاعي المشترك. ليس هناك مبرر للتدخل الفرنسي السافر سوى الأطماع الاستعمارية الواضحة في شمال أفريقيا وفي دولة لا ترتبط معها بحدود أو تاريخ مشترك. هذا إذا فرضنا جدلا أحقية فرنسا في التدخل في شؤون الجزائر وتونس والمغرب، هو أمر مشروع.
لم تجرؤ مختلف الأطراف الدولية الأخرى على الإعلان بوقاحة عن تدخلها في الشؤون الليبية. يتم الأمر بشكل مستتر خلف ستار
المرتزقة الروس تارة، وإرسال معدات عسكرية ودعم عبر وسيط ثالث
مثلما تفعل الإمارات. حتى الجانب المصري لم يعلن بصراحة ووضوح عن دعمه العسكري لقوات
حفتر.
يمكن أن نحلل أحد جوانب الاهتمام المفاجئ لفرنسا بالوضع في ليبيا على أنه تنافس تركي فرنسي ساحته البحر المتوسط، رغم أن هذا لا يعطي الحق لفرنسا كدولة أوروبية وعضو في حلف الناتو أن تتصرف بهذا النزق، والوصول لدعم عسكري لقوات جنرال منقلب يحاول إعادة دكتاتورية عسكرية على أنقاض ثورة شعبية.
المصالح الاستراتيجية الفرنسية المشروعة كانت تقتضي أن تلعب فرنسا دور الوسيط النزيه في الأزمة الليبية منذ بدايتها، ومنعها من الوصول للوضع الذي آلت إليه الآن. وبالمنطق البراغماتي البحت، كان يمكن أن يوفر هذا الدور المفقود للشركات الفرنسية بعض العقود النفطية وعقود إعادة الإعمار، لكن على الأقل في إطار سلطة شرعية منتخبة وليس على جثث الليبيين بالمعنى الحرفي للكلمة.
فالدعم الفرنسي واضح لقوات خليفة حفتر، أحد المساهمين في ارتكاب
المجازر التي تم الكشف عنها مؤخرا.
من المعروف أن فرنسا لديها مشكلة عنصرية داخلية تختلف عن بقية الدول الأوروبية، رغم العدد الضخم من ذوي الأصول الأجنبية الذين يعيشون أو ولدوا على أراضيها، وأن هذه
العنصرية متجذرة في المؤسسات الرسمية المختلفة رغم نجاح حركات حقوق الإنسان في الكبح من جماحها كثيرا. وللأسف لا يوجد نشاط شعبي في الداخل الفرنسي يحاول كبح جماح العنصرية الفرنسية في السياسة الخارجية لدعم الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية خارج أراضيها، على غرار حركات مثل مناهضة الحرب في بريطانيا.
إن النظرة الضيقة للمصالح الفرنسية تقتضي الاستثمار في النزاعات والمعارك، والركون إلى الأنظمة السلطوية في بلادنا من أجل بعض العقود والامتيازات. لكن النظرة الواسعة ترى أن هذا يضع فرنسا في مواجهة مع الشعوب العربية، مما سيؤثر على مصالحها قطعا في حال حدث أي تحول ديمقراطي مرتقب في أي دولة عربية، وهو أمر أثبتت الثورات العربية أنه ليس بعيدا بالقدر الذي يحلم به المستبدون. هذا بالإضافة إلى أن ساعة فتح ملفات الجرائم الفرنسية التاريخية في العالم العربي لم تحن بعد.
twitter.com/hanybeshr