السياسة الخارجية الخرقاء للسيسي في أكثر من ملف لا تحتاج محاججات كثيرة.. انبطاحه الكلي لنتنياهو وقبوله بـ"خطة ترامب"، وسوء إدارة ملف منابع النيل و"سد النهضة" الإثيوبي، وتفريطه في الجزر
المصرية "تيران وصنافير" للرياض، ودعمه منظومة الجنرالات الجدد في الخرطوم ضد الشعب السوداني، بما يهدد العلاقة الاستراتيجية مستقبلا مع الجار الجنوبي.
لكن ربما الملف الأكثر تعبيرا عن مأزق السيسي الإقليمي هو في مستوى حدوده الغربية، بعد اتباعه التعليمات الإماراتية ودعم
الخيار العسكري لحفتر دون التفكير كثيرا في خط الرجعة.
ارتدادات التوتر الليبي على مصر وتحول
ليبيا إلى طرف معاد يمس أركان وضع مصر الإقليمي، ولن تتضرر الإمارات البعيدة آلاف الأميال من انهيار
حفتر مثلما ستتضرر منه القاهرة. والآن على السيسي القيام باستدارة بهلوانية حتى يمكن أن يلاحق الأحداث، لكن الدوران بسرعة يمكن أن يؤدي للدوار وفقدان التوازن، وكشف مواطن الضعف.
بداية، حرص السيسي أن لا يكون بجانبه فقط "القائد العام" المنهزم، بل جلب أيضا عقيلة صالح، في إشارة إلى أن المستقبل لن يكون حفتريا، وأن صالح والعبيدات الرافضين لتفويض المشير يستحقون تبجيل القاهرة. ثم قرر
إعلان مبادرة سياسية زمن الهزيمة، بما يجعلها إعلانا للهزيمة بدون أن يكون لها أثر فعلي، حيث لن ترضى قوات
حكومة الوفاق بكسر لحظة انتصارها بوقف إطلاق النار، ولن ترضى القوى الإقليمية الداعمة لها، وعلى رأسها
تركيا، بالاستجابة إليها ما دامت في حالة صعود، ولن يرضى الروس بها لأنهم يعتقدون أنهم يمسكون بالمبادرة وليس القاهرة، على أساس وزنهم العسكري الميداني بفاغنر وطائرات الميغ والسوخوي في الجفرة.
حتى الولايات المتحدة لم تستطع إلا أن تترك السيسي في التسلل من خلال تصريحات علنية تؤكد على أنها عمليا غير صالحة، وأن الأولوية للمسار الأممي. اذ
قال ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط، إن المبادرة "تشمل بعض البنود المفيدة"، ثم أضاف: "إلا أننا نعتبر أن العملية الأممية ومنصة برلين تشكلان إطارا أكثر فعالية لإطلاق المفاوضات من أجل تحقيق تقدم في مسألة وقف إطلاق النار". الرسالة واضحة هنا ولو أن الصياغة أتت ببعض التأدب: مبادرة السيسي أتت في الوقت الضائع.
تغرق قاهرة السيسي في الرمال الليبية، ولا أدل عن ذلك من سعيها لنشر
شائعة عبور القوات المصرية الحدود وغزوها الجار الغربي.
على مدى عشرات السنين كان هناك دوما شعور بالضجر من "الانفلاتات الليبية" في القاهرة، ونوع من الشعور بالوصاية والاعتقاد بأن السطوة العسكرية قادرة على تعديل الأمور. نستحضر في هذا السياق المغامرة العسكرية للسادات سنة 1977، والتي احتلت أجزاء من الأراضي الليبية ومكثت فيها لمدة أربعة أيام، قبل تدخل وساطات دولية وانسحاب القوات المصرية. لكن لم يفعل ذلك إلا تأجيج الشعور المعادي لمصر وتقوية العقيد.
الورقة الأكثر أهمية التي تعمل عليها القاهرة هي تحقيق الامتداد المصري في ليبيا عبر قبائل أولاد علي. 1200 كلم من المناطق الصحراوية الخالية باستثناء بعض الواحات، والتي يستحيل أن تغلقها
القدرات العسكرية المصرية مهما تطاوست، وكانت دائما مجالا للاختراقات السهلة. العشماوي الذي انتقل من سيناء إلى ليبيا أرسل مجموعات داعشية عبر ذلك المجال، وكانت تتنقل بسهولة على جانبي الحدود.
حدود رخوة لا يمكن تأمينها بشكل عسكري كلاسيكي، ومن هنا تأتي أهمية حزام بشري قبلي ممثلا في فيدرالية القبائل المصرية- الليبية، "أولاد علي"، الممتدة بين الصحراء الغربية المصرية إلى الداخل الليبي في مساحة تقارب 500 كلم، والتي هاجرت من ليبيا إلى مصر منذ القرن السابع عشر. ليس سرا سعي القاهرة لتجنيس هؤلاء وتحقيق اختراق اجتماعي في الشرق الليبي، لكن ذلك سيتطلب وقتا، والوقت ليس في صالح القاهرة.
لا يوجد أمام السيسي سوى مناورات السياسة، وبعكس ما يعتقد لا يملك المبادرة. ولم يعد أمامه خيارات كثيرة، سوى أن ينضبط لتوازنات الواقع، ويفكر جديا في مفاوضات مباشرة مع
الطرف التركي.
تصريحات وزير الخارجية التركي التي اعتبرت أن المبادرة المصرية "ولدت ميتة"، تضمنت الشروط التركية لفتح قناة تفاوضية مع القاهرة؛ عبر القول إن "أفضل شيء بالنسبة لمصر أن تتعاون مع تركيا"، وأهم بنودها التخلي عن حفتر.
ربما تتحرك الإدارة العميقة للدبلوماسية المصرية وتحرك بعض العقل في رأس السيسي، للتفكير في المصالح الجيوسياسية المصرية بعيدا عن الصلف الإماراتي وتعليماته. ننتظر ونرى!
twitter.com/t_kahlaoui