ليست المؤسسات غير الربحية المرتكزة على مجموعة من المهمات الخدمية (Mission based organizations) ببعيدة عن الحدث العالمي الأول كوفيد 19. فهي تقع وسط الميدان رغماً عنها، لذلك كان هناك انتظار على جمر الغضا لدور هذه المؤسسات في إنعاش المجتمعات وإبعاد شبح العوز عن المتضررين اثناء العبور إلى شاطئ الأمان في هذه المحنة، والمساعدة في رفد المؤسسات الطبية التخصصية بما تحتاجه.
القضية ليست خبزاً فقط، ولا هي حليب الأطفال المغلف بالمن والأذى، أو مجموعة الصور أثناء توزيع الصدقات التي أهانت ذوي الحاجة على امتداد مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها قضية مرتبطة بعمل شامل متواصل جنباً إلى جنب مع الحكومات ومؤسسات الدولة في كل دول العالم، وكذلك مع مؤسساتٍ غير ربحية لا تعتمد على الحكومات في عملياتها المنتشرة ولا بتمويلها، لكنها منتجة بذاتها من غير تربح. إذ مقصود هذا العمل هو تخفيف الحمل عن كاهل الحكومات، في عملية تشاركية غير خاضعة للمعايير السياسية في الظروف العادية.
معروف أن حجم قطاع الجمعيات غير الحكومية التي تعتمد على التبرعات والهبات ومخصصات الدول كبير جدّاً، وليس محصوراً في شكل واحد من أشكال المعونات، وهي الجمعيات التي دأبنا على تسميتها بالجمعيات المؤسسة وفق مهمات مختصة بخدمة الجمهور العام (Mission based organizations).
هذا الكم الهائل من المؤسسات لعب دوراً في جميع الظرووف التي مرّ بها العالم من قبل. رأينا وسمعنا وقرأنا عن مهامها الكثير، بل ولعبت دور البطولة جنباً إلى جنب مع الحكومات الناجحة والمخلصة. لقد عملت بجهد عالٍ وفعال أثناء الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية، كالزلازل والأعاصير والحرائق، وكم خففت من العبء الملقى على عاتق الحكومات الرسمية، خاصة في الخطوط الخلفية التي لا تحتاج مهارة عالية في التعامل مع الكوارث والملمات ذاتها، ولكن بالإسناد لتخفيف وطأة تلك المصائب على البشرية وما ينتج عن تلك الكوارث من مخلفات سيئة على البشرية والعمران. ولعلي شاهد عيان على مؤسسات كثر أدت أدواراً ذات قيمة عالية أثناء الإعصار المدمر "كاترينا"، بل تفوقت على مؤسسات الحكومة المختصة.
المؤسسات غير الربحية تعددت في مهماتها، واختلفت وصنعت مجسماً إنسانياً تماماً كلعبة تركيب صورة الـبازل (Puzzles). والقائمون عليها باختلاف نياتهم حاولوا إتمام الشكل المرتقب، كل حسب قدرته المالية وقناعاته في المهمات التي أرادها لمؤسسته. فهناك جمعيات أطباء وصحيين، وتعليم وتثقيف، وإغاثة وإسكان. وهناك جمعيات اكتسبت البعد الديني، كنسية خيرية، كما رادفتها مؤسسات الهلال التي ارتبطت برسالة الإسلام السامية بمختلف مهماتها وتنوع أدائها، وكانت على مدار عقود طويلة تعمل من اجل البشرية وحمايتها. ولست هنا متناولاً النوايا بقدر مهنية وقدرة هذه المؤسسات العاملة على التخفيف من مصاب الإنسان أيّاً كان.
هذه المؤسسات الخيرية وجدت رواجاً كبيراً في أوساط الأثرياء، واستطاعت الوصول إلى حساباتهم البنكية ومدخراتهم واستثماراتهم عبر البورصة، أقنعت الكثيرين بشتى توجهاتهم بضرورة مد يد العون للمجتمعات البشرية، بعيداً عن التمييز. وبعضها ربما وقع في هوة التمييز، لكن بقي إنتاج هذه المؤسسات هو الأقوى في صراعات البشرية المختلفة، سواء كانت حروباً أو كوارث طبيعية.
هذه المبالغ الطائلة والثروات التي وضعت في حسابات الجمعيات غير الربحية لم تسلم من السطوة الحكومية في كثير من الدول، إما بصورة تشريعات مجحفة أو بصورة تعطيل للمهمات التي تقوم بها هذه الجمعيات بناء على خلافات سياسيّة، خصوصاً في دول ما زالت تحبو في هذا المضمار، مما يجعل المهام أكثر تعقيداً. وهذه التصرفات تجعل الحكومات تظهر بمظهر المعادي للعمل الخيري، في الوقت الذي وجد هذا العمل لتخفيف العبء عن الحكومات تجاه المستفيدين من المجتمعات الإنسانية، وحتى تلك المرتبطة بالحيوانات. لذلك علينا أن نعي دور الجمعيات الخيرية غير الربحية، حيث يكمن فيها خير كثير للبشرية وفي شتى المجالات.
جمعيات معفاة من الضرائب والمتبرعون يحصلون على تخفيض في ضرائبهم.. لكن؟
الدول التي أدركت ضرورة
العمل الخيري وضعت قوانين تحفيزية لهذه الجمعيات وللمتبرعين، فأعفت الجمعيات من الضرائب، كما أعفت المتبرعين من الضرائب على الأموال التي يقدمونها. هذه التحفيزات كوّنت أرضية سهلة من ناحية التأسيس والعمل، لكنها وضعت قيوداً بأيدي إدارات هذه الجمعيات تشبه قيود الأطفال كثيري الحركة، حيث كلما قفز الطفل تذكر أن قفزته محدودة، ولا بد من الرجوع لولي الأمر قبل أي قفزة أخرى. فهي لا يوجد لديها صلاحيات فوق خطط الحكومات، وكثيراً ما تُحكم هذه الجمعيات من خلال الضغط المالي الذي تقدمه الحكومات، لتجد إداراتها صعوبة تصل حد المستحيل لتنفيذ مهماتها.
العالم العربي والعمل الخيري:
العالم العربي يغص بالجمعيات الخيرية التي تعمل محلياً أو دولياً. ومعظم هذه الجمعيات يعمل وفق مهمات إنسانية معينة، لكن كثيراً منها مرده شرعي ديني. كما تبنى رجال السياسة والأحزاب الكثير من المشروعات الخيرية، ولعل ذلك يلفت الانتباه إلى أن المشروعات الخيرية المرتبطة بهؤلاء الساسة وهذه الأحزاب هي مشروعات سياسية بثوب خيري.
بعكس الدول الغربية التي تعتمد "لبيرالية" التقنين، التي سنت ورسمت سياسات عامة وإرشادات للجمعيات لإلزامها بخطوطها التي أعلنتها في رسالة المهمات، ولا يسمح بإنشاء جمعية دون بيان واضح لطبيعة المهمات التي تتبناها، وجدنا الأنظمة العربية أكثر صرامة في تحديد مهام هذه الجمعيات تشريعاً وتطبيقاً. فكثير منها (الجمعيات الخيرية) المرتبطة بالأحزاب السياسية وخاصة الإسلامية منها؛ إما موقوفة عن العمل أو مجمدة أموالها. وهناك تضييق غير عادي بحق العاملين في هذا المضمار وصل حد السجون.
وقد لاحظنا تغييبا شبه تام للمؤسسات الخيرية في ظل جائحة "كوفيد- 19" في العالم العربي. فمثلاً جمعية المركز الإسلامي الخيرية في الأردن مصادرة منذ سنوات طويلة من طرف الحكومة، ووضعت لها إدارات من طرف الحكومة شلت حركتها قبل الجائحة بسنوات كثيرة، مما أبقاها جمعيات ضعيفة غير قادرة على تلبية حاجات المجتمع التي تضاعفت بعد "كوفيد- 19"، حتى إن الجمعيات الصغيرة أو المحدودة قيّد عملها ولم تعد قادرة على التواصل مع قواعد المحتاجين المتضررين.
في مصر تمت مصادرة أموال هذه الجمعيات أيضاً وإغلاقها إغلاقاً تاماً بعد الإنقلاب الآثم، خصوصاً تلك التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك ما تبقى يعمل على الأرض لم يف بالحاجة، وشلّته قيود الحكومة التي فرضتها بعد الانقلاب، مما جعلها غير ذات قيمة فتفاقمت المشاكل، وليس لدى الحكومة أي بديل.
أما في الخليج العربي الذي يغص بالجمعيات الخيرية، وخاصة الكويت وقطر، فهي لن تكفي العالم العربي، كما ستحد من عملياتها في أفريقيا، وذلك بسبب تعطل الكثير من وسائل النقل والتواصل عبر الحدود التي أغلقت إغلاقاً شبه محكم. لذا فالعالم يعيش حالة غير معتادة من الحاجة، والحكومات باتت عاجزة عن الوفاء بما تعاقدت عليه مع الشعوب. وفي ظل تغييب هذا الدور المؤسسي الذي ربما هو مقصود، نجد أنفسنا أمام احتمالات كثيرة، أهمها الانفلات الأمني والمجاعات، كما قد يحدث ما لا نتوقعه من انهيار منظومات كثير من الدول؛ إن لم تجد الحكومات طريقها نحو حل أكثر واقعية في التعامل مع المجتمعات المنكوبة في ظل هذه الجاحة، خصوصاً إن طال أمدها.
إنزال الجيوش إلى الشوارع وإعلان حالة الطوارئ لن يفي بمطالب المحتاجين ولن يوقف الوباء، لكنه سيزيد من الضغط على المجتمعات العربية منها بالذات، أو مجتمعات دول الحكم الشمولي، لهذا لا بد من التفصيل في مقال آخر والتحدث فيه عن الانفلات الأمني القادم إن بقيت الدول على حالها في التعامل مع الحدث.