خلبَ برنامج "
اطمأن قلبي" لبّ الناس، وسحرهم بطله غيث بطيبته وكرمه وتواضعه، وهو يجوب الأقطار العربية ويرفع بعض الأسر الفقيرة من تحت خط الفقر إلى ما فوقه، كما في حكايات ألف ليلة وليلة والسندريلا. وكتبتُ عنه مقالاً أطلقت عليه اسم "زورو المقنّع" سخرية من الدولة التي ترعاه، مع الإشادة الناعمة بعمله، وأبديتُ خشيتي في أن يكون غيث شبيه روبين هود، الذي كان يسرق الأغنياء وينفقها على
الفقراء. وقد سألت صديقي وجاري حسن محب الدين عن رأيه، وهو باحث شرعي وخريج أزهر، فنبهني إلى أمور فنية وشرعية وقال:
- إنَّ الأصل في الإسلام والأرجى ثواباً أن تكون
الصدقات بالسرِّ، جاء في الحديث الصحيح عن السبعة الذين يظلّهم الله يوم لا ظل إلا ظله "ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". واستثنى العلماء الزكاة، كونها ركناً من أركان الإسلام ينبغي إظهارها حتى لا يتّهم مؤديها بالتهّرب. ومعنى التأدية أن يدفعها لبيت المال وليس أن تؤدّى للفقراء علناً، وإن أداها للفقراء مباشرة لعدم وجود بيت مال، فلا يصح بحال من الأحوال التشهير بهم، بحجة أنهم يقبلون ذلك، فما دفعهم للقبول إلا الحاجة.
- إن تصوير المتصدَّق عليهم ونشر صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي أمر غير جائز شرعاً بأي حال من الأحوال، حتى وإن كان ذلك بموافقتهم، لأنهم في موقف ضعف ولا يملكون حرية القرار بذلك حتى وإن بدا ظاهرياً عكس ذلك. وفي حال احتيج للتصوير والتوثيق أو ما شابه ذلك فيجب أن يكون في أضيق الطرق، التي تؤدي غرض أداء الأمانة وليس لنشره على الملأ.
- من الناحية القانونية، تمنع قوانين الأمم المتحدة التي تتبع لها منظمة
الهلال الأحمر التي ترعى البرنامج تصوير المستفيدين، بل تجرّم قوانين الدول الأوروبية تصوير الناس العابرين من غير إذنهم، فكيف بتصويرهم وهم في هذه الحالة من الحاجة.
- إخفاء وجه المتبرع أو المتصدق بالتعبير الديني أمر محمود، ولكن إظهار المتلّقي للصدقة وتصويره ونشر صوره على وسائل التواصل أمر مذموم، ولو خُيّرنا بين تصوير وجه المتصدِّق واخفاء المتصدَق له، لكان الأولى إخفاء المتصدَّق له لما فيه من أذى، مقارنة بإظهار وجه المتصدِّق الذي قد يكون ضرره أقل.
- ذكر بعضهم أنه لا يتم عرض الحالات التي يتم تصويرها جميعها، وإنما يعرض فقط من يوافق أن يتم نشر صوره، وذلك يعني أن موافقة المتلّقي للصدقة لا يعتدُّ بها لأنها موافقة تحت ضغط الحاجة والخجل من المتبرِع، وبعضهم كهول ولا يعرفون فقه الصورة والنشر العام، ومعنى التشهير، فهي حرية اختيار مشكوك بها. ثم إن موافقة المتلقي لا تغير من الحكم الشرعي شيئاً، وقد يكون لموافقته أبعاداً اجتماعية لا يدركها هو نفسه، وخاصة أن معظم من يتم التبرع لهم هم من فئة النساء وغالبيتهن غير متعلمات، أو أن معرفتهن بوسائل التواصل ضعيفة لفقرهن.
- إن ظهور ضحايا الصدقات في هذه الفيديوهات قد يسبب مشكلة اجتماعية لاحقة قد لا يدركونها هم أنفسهم، فلك أن تتخيل أباً يشاهد ابنته على الشاشة تتلقى مساعدة، وهو قد لا يكون قادراً على مساعدتها، أو أخاً أو ابناً يشاهد أباه أو أمّه تُنشر صورهم، أو صبية يتم تصويرها وهي تتلقى المساعدة، وهي ستكبر يوماً وتتزوج، أو تدخل الجامعة، ويشاهدها أولادها أو أصدقاؤها أو أهل زوجها.
- فيما يخص مموّلي البرنامج، لا يخفى على أحد الدور الذي تقوم فيه دولة
الإمارات في كل دول العالم، سواء بيدها مباشرة كما حدث البارحة في ليبيا (قصف معمل بسكويت)، أو عن طريق مرتزقة، أو دعم أنظمة تجاهد في الشيطان حق جهاده، وذلك في ليبيا والسودان ومصر والصومال واليمن ونظام بشار الأسد.
- لا تخلو هذه
البرامج من رياء ومن دعاية وتبييض صفحة دولة مثل دولة الإمارات، التي لو توقفت عن صرف الملايين لتقتيل المسلمين، لكان أولى من كفالة بعض الأيتام الذين ساهمت بتفقريهم وتشرديهم، ولعاشوا من غير مساعدتها المهينة. ومفقرو سوريا الذين افتقروا بمباركة الإمارات لا يجدون مثل بائعة المناديل شيئاً يبيعونه، وفقرهم تحت الصفر، وغيث لم يذهب إلى هناك ولن يذهب، وإن الكيان الوحيد الذي كشف وجههم القبيح هو شعب غزة.
- قيل إن البرنامج شأن أهلي لا علاقة للدولة به، ولكن هذا قول باطل، فالهلال الأحمر الإماراتي مؤسسة حكومية إماراتية، ولا تسير إلا وفق سياسة الدولة العامة، ودسّ علم دولة الإمارات في الفيديو أمر واضح، وكذلك اسم حاكمها. ثم إن تحويل هذه الأموال وتحريكها لا يتم إلا بموافقة الدولة وبمباركتها، ولك أن تسأل فيما لو قام سوري مقيم في الإمارات بتحويل مبلغ بسيط لأهله في سوريا ما يكون مصيره؟ وقد رأينا سوريين يهجّرون ويُعتقلون لتحويلات مالية بسيطة إلى أهلهم، واعتقلوا لمظاهرة من أجل أهلهم وهُجّروا من جديد في بدايات اندلاع الثورة السورية.
ختم صديقي حسن خطبته قائلاً: إن مما يدمي القلب أن يصل الحال بالمسلمين من كثرة المصائب فوق رؤوسهم أن يجدوا فضلاً عظيماً لشخص ملثّم وهو يتصدق عليهم، على الرغم من أنه شهّر بنسائهم وجعلهم فرجة لمن هبّ ودبَّ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأختم بالقول: إن غزة كشفت وجه الهلال الأحمر الإماراتي في سنة 2014، عندما وجدت أن خمسين متطوعاً من الهلال الأحمر قدموا للتجسس على المقاومة ومعرفة مواقع إطلاق الصواريخ على الاحتلال. وقد أطلقت المقاومة سراح الضابط الإماراتي الذي اعترف بجريمة التجسس تجنباً لخلق أزمة دبلوماسية، وخوفاً من صرف الأنظار عن معاناة غزة تحت القصف الصهيوني. وطُلبت من بعثة الهلال الأحمر مغادرة غزة على الفور، وشاع وسم (هاشتاغ) "الهلال الأحمر الإماراتي يتجسس على غزة" وقتها.
والهلال الأحمر الإماراتي ما يزال ينشط في السودان واليمن وسواهما.
وسألت صديقي حسن عن دموعي التي أذرفها كل مرة أتفرج على حلقة من حلقاته، فأوصاني بتجفيف دموعي بمشاهدة برنامج رامز مجنون رسمي، الذي كانت مكافأة أحد ضيوفه مليوني دولار فقط لا غير، فالضد يُظهر حسنه الضد.