استحالت الثورة السورية إلى أزمة إقليمية ـ دولية، لم تعد فيها مطالب الثوار قبل تسع سنوات ـ في تحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي ـ جزءا ومحركا رئيسا من مواقف الدول الكبرى الفاعلة في الملف السوري.
وأحد أهم أسباب فشل الثورة في تحقيق أهدافها، غياب الدعم الخارجي الكافي لإحداث تغيير في بنية الحكم، ذلك أن الولايات المتحدة لم تكن في وارد إسقاط النظام عسكريا كما حدث في ليبيا، وليست في وارد إتاحة الفرصة للمعارضة العسكرية من أجل تحقيق نصر عسكري كاسح.
بدأت أولى خطوات الحل السياسي تحت عنوان عريض في حزيران (يونيو) 2012 خلال اجتماع وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، والذي عرف آنذاك باجتماع "جنيف 1" وما تمخض عنه من إقرار الدولتين على ضرورة تشكيل "هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة".
غير أن تطور الصراع العسكري في سوريا، ودخول فرقاء محليين ودوليين مباشرة في آتون الصراع، وانتقال الثورة إلى صراع حاد بين محاور إقليمية ودولية، أجبر المجتمع الدولي على إعادة مقاربته السياسية حيال سوريا، بعدما اكتشف أن الحل يجب أن يكون متوافقا عليه من طرفي الصراع المحليين.
تغير الخطاب الدولي
في 30 تشرين أول (أكتوبر) 2015 اعتمدت المجموعة الدولية الخاصة بسوريا مقاربة جديدة، قوامها "عملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات".
كان هذا التحول الأول والكبير في خطاب المجتمع الدولي، بالتخلي عن مطلب المعارضة في "هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات تنفيذية كاملة"، واستبدالها بـ حكومة ذات مصداقية، مع ما يعنيه ذلك من مقاسمة السلطة بين النظام والمعارضة.
المقاربة الأمريكية المتاحة الآن تقوم، على استخدام أدوات الضغط بعيدة المدى على النظام السوري وحلفائه من أجل دفعهم للضغط على النظام السوري لتقديم تنازلات سياسية.
لكن ضغوط بعض الدول العربية والأوروبية الداعمة للمعارضة رفضت صيغة بيان "فيينا 1"، وكان من نتيجة هذا الضغط، عقد اجتماع ثان بعد أسبوعين، في 14 تشرين ثاني (نوفمبر) 2015، خرج عنه بيان "فيينا 2"، وتم فيه استبدال عبارة "حكومة ذات مصداقية"، بعبارة " حكم شامل ذي مصداقية وغير طائفي"، وهي العبارة التي تم اعتمادها في القرار الدولي 2254 في 18 كانون أول (ديسمبر) 2015، القرار الذي ما يزال يشكل في إطاره العريض المرجعية السياسية ـ القانونية للحل في سوريا.
لماذا الدستور؟
كانت الغاية من البدء في الدستور وتشكيل لجنة دستورية تحقيق أمرين:
الأول، توسيع نطاق المفاوضات لتشمل إضافة إلى المعارضة، أطيافا أخرى من المجتمع السوري من أجل تجاوز ثنائية النظام / المعارضة.
الثاني، حل سياسي بالتقسيط وعلى مدى طويل، بعدما تبين أن إنجاز تسوية سياسية شاملة دفعة واحدة أمر مستحيل.
ولا يمكن تحقيق هذين الهدفين من خلال بوابة الحكم، لأن الترتيب الذي حدده القرار الدولي 2254 لن يفض إلى أية نتائج، ذلك أن البند الأول (الحكم) يتضمن تقاسم للسلطة، وهي مسألة في غاية التعقيد نتيجة تشابك النظام مع الدولة أولا، ولأن النظام السوري ليس في وارد التنازل عن جزء من سلطاته من حيث المبدأ، فكيف الحال بتقديم تنازل في السلطة قبل معرفة إلى أين سينتهي المسار السياسي ثانيا.
لكن يمكن تحقيق هذين الهدفين من بوابة الدستور، والمقاربة الأممية تقوم على التالي: من شأن التوصل إلى دستور متفق عليه أو إعلان دستوري، وإلى صيغة متفق عليها للانتخابات، أن تبلورا تصورا واضحا لشكل المرحلة الانتقالية على المستوى القانوني من دون المرور بهيئة الحكم الانتقالية على المستوى العملي.
لما كان من المستحيل تحقيق الحل السياسي من أعلى دفعة واحدة، ولما كان من المستحيل إجبار النظام السوري على تقديم تنازلات سياسية قبيل انتهاء الوضع العسكري، فإن الصيغة الأمثل لبلورة مسار الحل يكون من خلال العملية الدستورية، وفي هذه الحالة ليس الدستور سوى مدخل للحل السياسي الأوسع.
الآفاق السياسية
وعلى الرغم من كل ما تقدم، فإن الولايات المتحدة والأمم المتحدة لا تملكان رؤية استراتيجية واضحة المعالم للحل السياسي، واعتماد الإدارة الأمريكية أدوات الضغط الناعمة (العقوبات الاقتصادية والسياسية) دليل على ذلك.
المقاربة الأمريكية المتاحة الآن تقوم، على استخدام أدوات الضغط بعيدة المدى على النظام السوري وحلفائه من أجل دفعهم للضغط على النظام السوري لتقديم تنازلات سياسية.
غير أن تجارب التاريخ تؤكد أن مثل هذه الضغوط لا تفي بغرضها، فالأنظمة الاستبدادية قادرة على امتصاصها، خصوصا في الحالة السورية، حيث للنظام علاقات مفتوحة مع كثير من الدول، لا سيما تلك التي على حدوده مثل العراق ولبنان، والأردن إلى حد ما.
يدرك النظام السوري هذه المقاربة، ولذلك هو يعمل على ترسيخ وجوده بالقوة، ومحاولة التأقلم مع العقوبات الاقتصادية الأمريكية لحين حصول تغيير في المزاج الدولي، يأمل أن يكون لصالحه وفق رؤية تعتبر أن
السياسة قائمة على المصالح وعلى الأمر الواقع، فتاريخ الولايات المتحدة هو تاريخ التحالف مع الأنظمة الاستبدادية.
وفي ضوء ذلك، لا توجد آفاق سياسية واضحة المعالم للحل في سوريا على الأقل في المدى المنظور وربما المتوسط.
*كاتب وإعلامي سوري