قضايا وآراء

جائحة كورونا تُسائل مستقبلنا المشترك

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
يعيشُ العالم بكافة وحداته لحظةً بالغة ًالحساسية والتّعقيد، لم يشهد نظيراً لها حتى في أعتى الحروب والأوبئة التي حصدت أرواحاً بشرية لا حصر لها، وزرعت في الحياة كوابيس الخوف، وفقدان الثقة وعدم اليقين.

فالوباء الذي انطلق من الصين أولا، واجتاح بسرعة قياسية مجمل بلدان المعمور، فتك بآلاف الناس من مختلف الأعمار والديانات والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وألزم الجميع، كل بحسب قدرته، بالوعي بخطورة الجائحة، والتخطيط لمواجهتها والحد من انتشارها، عسى أن تكون الخسارة أقل، والكُلفة أرشد، والمصير قابلا للتفاؤل بما سيؤول إليه.

ولعل الأبرز في خطورة الجائحة، على الأقل حتى حدود الآن، أن القدرة بتوقع تطورها في القادم من الشهور والأيام غير ممكنة، ولا متاحة من الناحية العلمية والعملية. والدول بإمكانيات نظمها الصحية، وبنياتها التحتية ذات العلاقة، وكفاءاتها الطبية، والخبرات التي راكمتها في مجال مقاومة الأوبئة، لم تتمكن من الحد من انتشار الوباء، والتغلب على آلاف الإصابات به، بل إن بعضها لم تقدر على دفن ضحاياها وفق القواعد والأصول المتبعة في الجنائز، بل إن مقابر بعضها لم تعد قادرة على استقبال جثت الموتى بسبب الجائحة، كما هو حال دولة إيطاليا.

وجدَ العالمَ نفسه أمام هذه الجائحة، كما قال الفيلسوف الفرنسي "إدغار موران" (Edgar Morin) في آخر محاضرته، فاقدَ البوصلة، دون معالم تُنير له الطريق، وغير قادر على فهم طبيعة ما يجري، ورسم صورة مُقنعة لما ستؤول إليه تطورات الوباء. فالجميع، باستثناء الصين وبعض الدول الآسيوية (سنغافورة، هونغ كونغ، وكوريا الجنوبية)، يتخبطون بين الحدّ من انتشار الوباء، والبحث عن الدواء المنقذ، وكل يوم يمر والجائحة تتمدد وتحصد الضحايا، والعلماء يغالبون الوقت من أجل الاهتداء إلى ما قد يشكل خلاصَ البشرية.

لكن بالمقابل، تناسلت الكتابات عن الوباء وتطوره، وقد وجدت في عمومها في منصات التواصل الاجتماعي وسيلة للانتشار، كما تعددت التقارير الصادرة عن خبراء الصحة وعلوم الأوبئة ومراكز البحوث المتطورة، وكثّف الساسة وصناع القرارات في حكومات الدول، من التواصل مع مجتمعاتهم بخصوص خطورة الوباء وضرورة التصدي له، كما أكثرو من إصدار الإجراءات الاحترازية اللازمة للوقاية منه، بما فيها غلق الحدود بكل أنواعها، والحد من التنقل الداخلي أو منعه في بعض البلدان، وفرض الحجر الصحي، والعزل المنزلي. وفي زمن قياسي انكمش العالم وانطوى حول ذاته، ووجدت البشرية نفسها أمام نمط جديد من الحياة لم تشهده من قبل. بل إن دولا كثير فرضت حالة الطوارئ على مواطنيها، فخولت السلطات العمومية اختصاصات واسعة لجعل الناس ينصاعون للتدابير الاحترازية المتخذة.

لذلك، سيكون لجائحة كورونا ما بعدها، إن تمكنت البشرية من الفوز في الحرب عليها، والتغلب على قدراتها المهولة والمخيفة في الانتشار السريع، والفتك بالأرواح وتكاثر الضحايا. أما ماذا سيكون ما بعدها، أي ما بعد القضاء عليها، فكثير ومتعدد، ومتنوع المظاهر. فمن جهة، ستحصر البشرية خسائرها من الأرواح والممتلكات، وستقوم بجرد ما حصل لاقتصاداتها وقدراتها المالية، وستتعرف، دون شك، على جوانب الاختلال التي كشف عنها الوباء في بنيانها الصحي والاجتماعي، وحتى العلمي. لكن أهم ما يجب أن يحظى بالاهتمام في مرحلة ما بعد القضاء على وباء كورونا، هي الإجابة عن سؤالين اثنين، هما: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ وإلى أين يجب أن نتجه بالعالم؟

 من الواضح أن تشخيص المسارات المفسرة إلى ما وصلنا إليه تكاد تكون واضحة ولا خلاف حولها، ولعل أبرز مصدر للتشخيص يكمن في أن القوى المتحكمة في قيادة العالم (الغرب أساسا)، وعلى الرغم من مرورها بامتحاني الحربين الكونيتين، لم تُغير رؤيتها للعالم ولما يجب أن تكون عليه علاقات وحداته، فاستمرت متحكمة في قراراته وصناعة سياساته وحدها، مستبعدة الآخر أو الغير، وغير مكترثة بقيمة التعددية في بناء مصير البشرية، بل حاربت القوى من خارج مدارها الحضاري حتى لا تكون إلى جانبها لخلق قدر معقول من التعددية والتوازن. والأكثر، حين انهار ما كان يمثل محور استقطاب دولي إلى جانبها، أي المنظومة الاشتراكية، لم تتردد في التبشير بتوحّد العالم في المنظومة الليبرالية، وميلاد الإنسان الواحد، وهو ما شجع الغرب على العودة إلى الشكل المتطرف من الليبرالية، أي الليبرالية الجديدة، التي ألغت مفهوم الإنسان المتعدد، والثقافات والمجتمعات وأنماط العيش المتعددة والمتنوعة. كما أن الليبرالية المتوحشة ألغت تماما الأبعاد الاجتماعية والثقافية، ونظرت إلى البشرية كسلع، ومنتوجات، وبضائع للبيع والشراء، وأصبح لسان حالها البحث عن الربح، واللهث وراء الكسب ومراكمة الأموال، وهو ما قاد العالم إلى ما قاده إليه.

لذلك، سيكون مستحيلاً استمرار العالم محكوماً بقوة واحدة (الغرب)، وإلا سيكون الدمار الشامل والنهائي، ومن هنا الحاجة ماسة، في حال القضاء على الوباء، للتفكير في بناء رؤية جديدة لمستقبل العالم، يكون أبرز عناصرها القيادة والريادة المتعددة للعالم، والقطيعة مع ما ساد العالم منذ معاهدة وستفاليا لعام 1648، أي محور أوروبا، ولاحقا الغرب كمفهوم سياسي. ثم إن الرؤية الجديدة للعالم، كي تحظى بالتأييد وتجنب البشرية كوارث جديدة، لا بد أن تؤسس على المشترك الإنساني، أي على ما يُبقي الإنسانية ويجعل أفرادها مشاركين في تقرير مصيرهم، وهذا يتطلب بدوره إعادة النظر في طبيعة العلاقات الدولية التي سادت منذ قرون.. لقد فتحت جائحة كورونا أعين العالم على أن المصير المشترك مهدد، وأن استعادة عافيته تتطلب إعادة بنائه على فلسفة ورؤية جديدتين، وإلا سيكون الانهيار الشامل للبشرية وللحضارات.
التعليقات (2)
عزيز لحريشة
الأحد، 05-04-2020 06:58 م
تسلم اناملك استاذنا العزيز ما زال عطاذك مستمرا يروي أحاسيس الواقع مند المدرجات إلى هذه اللحظات
عزيز لحريشة
الإثنين، 23-03-2020 06:27 م
كما عهدناك في محاضراتك سنوات التسعينات بواقعيتك وتحليلك المنطقي للضواهر بدء من أزمات العراق والخليج العربي مرورا بالتنضيمات الإرهابية وبروز الاحادية القطبية وصولا لعالم اليوم بانتظار وباء الكورو نا التي عرت هشاشة الاتحاد الأوروبي وبروز أنانية الحكومات مما لا شك انها ستغير العالم و ستضهر قوى أخرى وتنضيمات جديدة. تسلم اناملك استادي الفاضل دمت متالقا كعادتك